الجمعة 05 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

حكايات من زمن فات

السبت 20/سبتمبر/2025 - 11:26 م

كانت جدتي تحكي لنا الكثير من الحكايات، كنا نتخيل تفاصيلها كاملة وكأننا نشاهدها أمام أعيننا، تعشش في عقولنا، كل خطواتنا في الظلام نري فيها الوحش الذي يقتل الناس، والغولة التي تخطف الأطفال، واللص الذي سيسرق حقولنا، والجنية التي ستخرج لنا من الترعة، كنا نراهم حولنا وكأنهم حقيقة، فارتبنا من الظلام.
وعندما كبرنا تغيرت الحكايات وأصبحت واقعية، تحكي لنا عن أشخاص نعيش معهم، الجد، والوالد، والخال والعمة، وأحد الأقارب، كانت الأسماء معلومة، والحكاية لها تفاصيل كثيرة، وتحولنا الي محققين، نريد أن نسمع الرواية الأخرى لصاحب الحكاية، وخصوصا لو كان علي قيد الحياة، وكأننا نوثق الحدث ليتم تسجيله للأجيال القادمة من العائلة.
كانت أكثر حكايتها عن ابنها الذي توفي في ريعان شبابه، عن شهامته، وبره، عن رجولته، ومواقفه الطيبة مع الجميع، عن حسن طلعته، لكن الموت خطفه منها في غمضة عين، بكت عليه حتى ضاع بصرها، لكنها ما زالت تراه بقلبها فهو الشاطر حسن، لو كان علي قيد الحياة، ولكان أبنائه الان معكم.
كانت أول مرة أسمع منها حكايات عن النداهة التي أخذت جدي خلال عودته من أحد القرى المجاورة لنا ليلا، وأخذت تلف به في الطرقات وهو يسير خلفها وينصاع لأوامرها، ثم تجعله يسير بين الحقول بدون وعي، يسير وراء صوتها الذي تشخصه لأحد معارفه، ولم ينقذه من تلك المتاهة سوي قريب له عندما قابله صدفه، ليحرره من تأثيرها عليه.
عندما جلسنا مع جدي رحمه الله زاد في تفاصيل الحكاية، ونحن لا نصدق هل حقا هناك نداهه تخطف العقول وتجعل من تنادي عليه أسيرها، وتظل ترهقه حتي يظهر نور الصباح، ثم فجاه تتركه.
وزاد جدي انه أمسك بالشيطان، وحوله إلى جمل يحمل علية القمح لينقله إلى الجرن، وطوال سيرهم معا يطلب منه الجمل أن يحرره، ولكنه يظل يستعبده حتي تباشير الصبح بعد أن يكون نقل كثيرا من المحصول إلى الجرن، ثم يخلع المسلة من جسده فيختفي، ويعاود نفس الطريقة مع غيره لو صادفه، ونحن نحاول التصديق وجدتي تؤكد أن الحكاية حقيقية، وانهم استخدموهم في العمل.
ثم تؤكد ان الجنية خرجت لهم وجلست تحت شجرة الجميز الضخمة، وان جارهم تعارك معها واستمرت معاركهم معا مرات عديدة، فهددته بخطف أحد أبنائه، وانها ستجعله يندم علي معاملته السيئة لها كلما رآها تحت شجرة الجميز، وهذا ما حدث في أحد الأيام وقت القيلولة، والسكون يعم المكان، والشمس تقترب من الأرض تلحف بحرارتها الوجوه، فيقرروا ان ينزلوا الترعة ليرطبوا أجسادهم من هذا الوهج الحارق، فتظهر الجنية وتسحب ابن الشيخ دائم الصدام بها الي قاع البحر الكبير، ولم يظهر مرة أخري.
لم أنزل الترعة خشية ان تظهر لي تلك الجنية بعد تلك الحكاية، ولم تطأ قدماي شجرة الجميز التي كنت أتسلقها الي أعلي فروعها.
ثم كان يوم مولد أحد الشيوخ بالقرية، وجاء أحد الصوفيين ويقال انه شيخ الطريقة، التي يتبعها الكثيرون من أهل القرية، يجوب طرقاتها وحولة فريق كبير من الاتباع، يدخل البيوت بدون قصد يطمأن علي أصحاب البيت الذي لا يعرفهم، ويتسابقون لتقبيل يديه وان يمسح بيديه علي رؤوسهم، وينفس الماء من فمه علي وجوههم، ونحن نتعجب من تلك التقاليد، رغم ان للرجل وقاره وهيبته، كذلك له منصبه الحكومي الكبير، لماذا يفعل تلك الترهات؟ وهل هي حقيقة زم مجرد عادات توارثها الأجيال وتستمر مادامت الحياة.
وعلم الشيخ أننا نهزأ بما يفعله، وأنه في طريقة إلى ضريح الشيخ صاحب المقام (المولد) ليزوره وسط حشد يزيد كلما مر في طريقه إلى وجهته، وهنا قررنا أن نسلم عليه، نقبل يديه عسى أن يحدث لنا مكروه من النميمة التي نقولها، أو يكون قد سمع همسنا فهؤلاء كما يقولون مرفوع عنهم الحجاب، ويعرفون صاحب الدار الذي يدخلها قدرا، وأن نفعل ذلك ثم نتركهم ونعود أدراجنا.
وكعادتنا يقيم أبي ليلته قبل الليلة الكبيرة، ويمتلأ البيت بالرجال من كل حدب وصوب، ويأتي المنشد ويتم تعليق الأنوار والزينة ويصدح المنشد ومكبرات الصوت تجذب الناس الذين يتكاثروا كلما مر الوقت، واندس في وسطهم احمل السيف واتطوح به يمينا وشمالا، في حركات منضبطة، ثم يسرعون في حركاتهم ويرددون الله الله، ليخرج أحدهم من الصف في حالة من التشنج آو التوحد كما يعرفونها ليمسك به بعضا من الرجال حتي يهدأ من حالة التوحد التي تعايشها، وفي نهاية الليلة يتم توزيع الخبز ومشروب القرفة، وتنتهي الليلة مع اذان الفجر، لنستعد لليلة الكبيرة.

تابع مواقعنا