الجمعة 05 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

السردية الوطنية… قراءة في الاسم والمضمون

الخميس 25/سبتمبر/2025 - 01:25 م

منذ الإعلان عن السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية، لم ينشغل المتابعون كثيرًا بما تحمله من تفاصيل بقدر ما انصرفوا إلى الاسم نفسه، مع تساؤلات: لماذا سردية؟.. وهل يصح أن يكون هذا التعبير عنوانًا لوثيقة اقتصادية؟، فبدا وكأن الجدل انصرف إلى الغلاف قبل قراءة الكتاب.

البعض كذلك اعتبر المصطلح غريبا أو دخيلا، وكأنه ينتمي إلى عالم الأدب أكثر من الاقتصاد، بينما رأى آخرون أنه فضفاض ويزيد الغموض، لكن الحقيقة أن معنى الكلمة أبسط من ذلك بكثير، فالسردية هي الإطار الذي يجمع خيوطا متفرقة ليصوغ منها قصة متماسكة، وفي حالتنا، هي محاولة لجمع رؤية مصر 2030، والبرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية، وخطط الوزارات القطاعية، في نص واحد يعيد تقديم الأولويات الاقتصادية في لحظة ضاغطة داخليًا وخارجيًا.

بصرف النظر عن المصطلح، فالنقاش الأكثر جدوى لا يجب أن يتوقف حوله بل بشأن المضمون، فالسردية، مهما بدت تسويقية في ظاهرها، فإنها في الواقع تحمل في طياتها تفاصيل مهمة تستحق التأمل، خاصة وأنها وللمرة الأولى تنتقل من عموميات الخطاب إلى لغة الأرقام التي تعكس أهدافًا كمية واضحة، وتجعلها في ذات الوقت قابلة للقياس مع إمكانية متابعة الأداء ومساءلة التنفيذ.

ومن بين هذه الأهداف، رفع الصادرات إلى 145 مليار دولار بما يعادل ربع الناتج المحلي، وزيادة مساهمة الصناعة إلى 20% من الناتج بحيث تصبح المصدر الرئيس للصادرات، وكذا استهداف 30 مليون سائح سنويًا، والوصول بنسبة الطاقة المتجددة إلى 42% من مزيج الطاقة بحلول 2030.

وما يميز هذه الوثيقة أيضًا أنها لا تتحدث عن التنمية الشاملة كمفهوم فضفاض، بل تحدد القطاعات التي تُعتبر قاطرات للنمو، وهي الصناعة التحويلية، والزراعة، والسياحة، والخدمات، والطاقة، ومسألة التحديد هذه مهمة للغاية لأنها توجه السياسات وتعطي إشارات واضحة للقطاع الخاص والمستثمرين حول الأولويات، وهو ما يفتقده الخطاب العام عادة حين يغرق في الحديث عن فرص غير محددة.

ومع ذلك، يظل التحدي في قدرة هذه القطاعات على قيادة النمو فعلا، وهو ما سيتوقف على السياسات التفصيلية التي ستتبناها الوزارات المسؤولة، ومتابعة عملية تحقيق المستهدفات ومؤشرات قياس الأداء.

وعلى المستوى الاجتماعي، تضمنت السردية مستهدفات لخفض معدلات البطالة، وزيادة مشاركة النساء والشباب في قوة العمل. بل انها وضعت في فصلها الرابع ربطا بين التعليم وسوق العمل كخطوة مفصلية لريط الناتج الاقتصادي بالتأهيل البشري. وهي خطوات إيجابية بالطبع لأنها تعكس إدراكًا أن التنمية الاقتصادية لا يمكن أن تنفصل عن العدالة الاجتماعية.

وعلى المستوى المكاني جاء فصلها الخامس متميزا، فهناك توجه جديد لتوزيع الاستثمارات على أساس التعدادات الاقتصادية والسكانية، بما يسمح بمعالجة الفجوات التنموية بين المحافظات، ورغم أن هذه الإشارات قد لا تكون كافية بمفردها، لكنها تعبر عن وعي بضرورة تحقيق قدر من التوازن بين المحافظات المختلفة، وهو أمر كثيرًا ما غاب عن السياسات السابقة التي انحازت بشكل شبه كامل إلى المراكز الحضرية الكبرى.

لكن، وبالرغم من كل هذه النقاط الإيجابية، تظل هناك تساؤلات أساسية إذا أُريد للسردية أن تتحول إلى إطار عملي، وأهمها كيف للمواطن ان يؤمن بها كرافعة لتحسين المعيشة على ارض الواقع لا على مستوى أرقام الاقتصاد الكلي فقط وكيف للاصلاح التشريعي ان يتكامل مع السردية لتمشي على ارض مستوية. بقاء هذه الاسئلة معلقة يفتح الباب أمام التشكك ويعقد من التنسيق.

كما أن إعلان آلية متابعة شفافة سيظل شرطا ضروريا لجدية التنفيذ، فالمستهدفات مهما بدت طموحة ستظل أقرب إلى الطموحات الورقية إن لم ترتبط بجداول زمنية وتقارير دورية عن نسب التقدم، ورقابة صارمة للتحقيق، وأخيرًا، يبقى ربط الموازنات العامة بالمستهدفات الاقتصادية والاجتماعية حجر الزاوية، حتى تتحول الأرقام من مجرد أهداف إلى محددات فعلية للإنفاق العام.

ومع ذلك، من المهم ألا ينظر القارئ إلى اي تساؤلات باعتبارها ثغرات تُبطل السردية، بل باعتبارها مكملات طبيعية لأي إطار استراتيجي في طور التشكل، فالسردية لا تُقدَّم كمنتج نهائي مغلق، بل كعملية مفتوحة تخضع لجلسات نقاش مستمرة وتطوير وتعديل، بما يعمل على صقلها وتجويد ترابطاتها المؤسسية، وهي بالطبع مرونة تحسب لها، لأنها تجعلها بداية قابلة للتطور لا وثيقة جامدة محكومة بمصطلحات نهائية.

ختاما، يمكن القول إن السردية الوطنية تمثل نقلة نوعية قياسًا بما سبقها، فهي تجمع للمرة الأولى بين أهداف كمية محددة، وقطاعات رائدة، وأبعاد اجتماعية ومكانية، في وثيقة واحدة.. نعم هي لا تحل أزمات الاقتصاد تلقائيًا، لكنها تضع أرضية مشتركة يمكن البناء عليها، ليبقى الرهان الحقيقي غير قاصر على الأرقام وحدها، بل على القدرة على تحويل هذه الأهداف إلى سياسات تنفيذية وموازنات واقعية، وعلى التزام المؤسسات المختلفة بترابط يضمن التوجه في مسار واحد وصولا لتحقيق المستهدفات.

والأمل هنا ليس في أن السردية ستغير الواقع بين ليلة وضحاها، بل في أنها تفتح الباب لإعادة تنظيم التفكير الاقتصادي الوطني، بما يجعل من التخطيط عملية أكثر اتساقًا، ومن المساءلة أداة أكثر حضورًا ومن المؤشرات وسيلة للتقييم والمتابعة، لأنه إذا ما اكتملت حلقات النقاش والتنسيق، وصُقلت الترابطات المطلوبة، يمكن أن تتحول السردية بالفعل إلى خارطة طريق عملية، لا مجرد غلاف أنيق يضاف إلى رفوف الوثائق.

وبين التهويل المفرط والانتقاد الجارح، تظل الحقيقة في المنتصف بأنه لدينا محاولة جادة تستحق أن تُدعَم، ومجهود بعقول وطنية شابة يستحق الاشتباك الايجابي معه، وكما قال اديبنا الراحل نجيب محفوظ، فإن االعقل الواعي هو القادر على احترام الفكرة حتى لو لم يؤمن بها.

تابع مواقعنا