الجمعة 05 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

السلام.. عندما يكون ظاهره ورق اتفاقيات وواقعه عداء

الجمعة 26/سبتمبر/2025 - 03:38 م

بعد أكثر من أربعة عقود على أول اتفاقية سلام عربية–إسرائيلية، يمكن القول إن التجربة برمتها كشفت عن خلل بنيوي في مفهوم "السلام" ذاته، فبينما ترى الدول العربية أن السلام يعني إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وضمان الحقوق، تنظر إسرائيل إلى السلام كغطاء لترسيخ واقع القوة والتوسع.

إن ما يجري اليوم في غزة، وما يرافقه من تحولات عربية وإقليمية، يضع النقاط على الحروف: إسرائيل لا تريد سلامًا، بل تسعى لفرض هيمنة مطلقة، مدعومة بدعم أمريكي فجّ وازدواجية معايير دولية، من هنا يصبح وصفها بأنها "العدو" ليس مجرد شعارًا عاطفيًا، بل حقيقة سياسية راسخة تؤكدها الأحداث يومًا بعد يوم.

منذ توقيع اتفاقية السلام المصرية–الإسرائيلية عام 1979، رُوّج لها بوصفها نقطة تحول في مسار المنطقة، وبداية مرحلة جديدة من التعاون وبناء الثقة، غير أن العقود الأربعة التي تلت الاتفاقية، وما تبعها من محاولات عربية أخرى للتطبيع، أثبتت أن السلام مع إسرائيل ظل في أغلب الأحيان "سلامًا على الورق" لم يترجم إلى واقع فعلي، سواء على صعيد الشعوب أو حتى على مستوى سياسات الدولة العبرية نفسها، بل إن سلوك كيان الاحتلال، في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص، جعلها العدو الأول في وجدان الشعوب العربية، وأعاد طرح سؤال جوهري: هل إسرائيل أصلًا راغبة في أي سلام حقيقي أم أن استراتيجيتها تقوم على فرض الأمر الواقع بالقوة وتكريس الاحتلال؟

حين وقّعت مصر معاهدة كامب ديفيد، كانت أول دولة عربية تقدم على خطوة السلام المباشر مع إسرائيل، يومها، رأت القيادة المصرية أن استعادة سيناء كاملة عبر المفاوضات يشكل مكسبًا استراتيجيًا يضمن سيادة الدولة على أرضها ويجنّبها ويلات الحروب المتكررة، لكن في المقابل، لم تلتزم إسرائيل بجوهر السلام القائم على حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، بل استمرت في توسيع الاستيطان ورفض إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما جعل الاتفاق هشًا، قائمًا على الحد الأدنى من التزامات متبادلة، بينما ظلت جذوة العداء متقدة في نفوس الشعوب.

ومع مرور السنوات، اتضح أن الكيان المحتل يتعامل مع أي اتفاق سلام باعتباره فرصة لالتقاط الأنفاس وتثبيت أقدامها في المنطقة، لا التزامًا حقيقيًا بقواعد حسن الجوار أو احترام القانون الدولي.

المشهد الأوضح على سقوط وهم السلام كان في غزة، فما يجري منذ شهور من حصار وتجويع وقتل جماعي بحق الشعب الفلسطيني، على مرأى ومسمع من العالم، يعكس ما يشبه "هولوكوستًا جديدًا" بحق شعب أعزل، أطفال ونساء وشيوخ يُقتلون بلا رحمة، منازل تُسوّى بالأرض، مستشفيات تُقصف، وأحياء تُمحى من الوجود، دون اكتراث لأي قيم إنسانية أو اعتبارات قانونية.

إسرائيل لم تكتف بخرق أبسط قواعد القانون الدولي الإنساني، بل استباحت الذاكرة الإنسانية نفسها التي جرّمت المحارق والإبادات، وها هي ترتكبها ضد الفلسطينيين علنًا، وهنا يصبح من المشروع التساؤل: كيف يمكن الحديث عن "سلام" مع كيان محتل يعلن عدائه الصريح لوجود شعب بأكمله، وتتعامل مع إبادته كخيار سياسي مشروع؟!

خلال السنوات الأخيرة، أخذ الموقف العربي في التحول تدريجيًا، لم يعد الأمر مقتصرًا على بيانات شجب وإدانة، بل ظهرت بوادر واضحة لإعادة ترتيب الأولويات الاستراتيجية، فالمناورات العسكرية المشتركة بين مصر وتركيا والتقارب مع إيران، والتحالفات بين السعودية وباكستان، هي رسائل غير مباشرة بأن إسرائيل باتت على رأس قائمة التهديدات، وأن العرب يعيدون بناء شراكاتهم على أساس إدراك أن العدو الحقيقي هو الاحتلال لا غيره.

والأهم أن الخطاب الرسمي العربي بدأ يستخدم لغة لم تكن معهودة من قبل، لأول مرة منذ عقود يصف رئيس أكبر دولة عربية –مصر– إسرائيل بأنها "دولة عدو"، وهو توصيف يعكس أن السلام لم يعد يُنظر إليه كخيار استراتيجي مضمون، بل كاتفاق جُرّب وثبت إخفاقه.

ما زاد الطين بلة هو الموقف الأمريكي والغربي عمومًا، الدعم المفتوح والعلني الذي تقدمه واشنطن وتل أبيب لبعضهما، رغم الفظائع المرتكبة في غزة، شكّل صدمة كبرى للرأي العام العربي والإسلامي، فحين تغض الولايات المتحدة الطرف عن قتل الأطفال وتجويع المدنيين، وتستخدم حق النقض في مجلس الأمن لمنع أي قرار يوقف العدوان، فإنها تُفقد نفسها مكانة "الوسيط النزيه" وتكرّس صورة أنها شريك في العدوان.

هذه الازدواجية لم تعد تمر مرور الكرام، بل دفعت كثيرًا من الدول العربية والإسلامية إلى إعادة النظر في علاقاتها وتحالفاتها، ما كان يُعرف يومًا بـ"الشرق الأوسط الجديد" الذي بشّر به شمعون بيريز على أساس التكامل الاقتصادي، صار اليوم "شرقًا أوسط مضطربًا" يرسم نتنياهو معالمه على مقاس التوسع الصهيوني والعنصرية الدينية.

المتابع لخطابات قادة الاحتلال، لا سيما رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يدرك أن السلام لم يكن يومًا خيارًا استراتيجيًا حقيقيًا لديهم، حديثه المتكرر عن "رسم شرق أوسط جديد" هو في جوهره خطاب استعلائي قائم على رؤية صهيونية تعتبر العرب شعوبًا مهزومة، وأن بقاء إسرائيل وتفوقها مرهون بإضعاف محيطها العربي والإسلامي.

وهذا الفكر ليس جديدًا؛ إذ ارتبط بالمشروع الصهيوني منذ نشأته، حين اعتبر فلسطين "أرضًا بلا شعب لشعب بلا أرض"، متجاهلًا الوجود التاريخي والإنساني لشعب كامل، من هنا، يصبح من العبث المراهنة على أن إسرائيل ستغير جلدها فجأة لتصبح دولة طبيعية بين دول المنطقة.

إذا كانت الحكومات قد انخرطت في مسارات تفاوضية واتفاقيات تطبيع، فإن الشعوب بقيت وفية لبوصلة العداء، في الشارع العربي، من المحيط إلى الخليج، لم ينجح أي اتفاق في محو صورة إسرائيل كعدو أول، والانتفاضات الشعبية والتظاهرات المستمرة دعمًا لغزة خير شاهد على أن الوجدان العربي لا يعترف بشرعية الاحتلال، وأن أي حديث عن "سلام" لن يجد صدىً حقيقيًا ما دام الفلسطينيون تحت القصف والحصار.

الخلاصة.. السلام – إن لم يكن قائمًا على العدل والكرامة واحترام الحقوق– سيظل مجرد أوراق موقعة لا وزن لها أمام دماء الأبرياء، وسيبقى العداء هو الواقع الذي يحكم علاقة العرب بإسرائيل إلى أن تُسترد الحقوق ويُرفع الظلم عن الشعب الفلسطيني.
 

تابع مواقعنا