السبت 06 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

ظروف العندليب

الجمعة 26/سبتمبر/2025 - 06:20 م

محدش فينا حياته خالية من الظروف الخارجة عن الإرادة اللي بتخليه غصب عنه يقصر في حق أقرب الناس له.. للأسف كنت وما زلت من الناس دي بس يمكن عزائي في التهوين عن نفسي من تأنيب الضمير حاجتين: الأولى إني بحاول قدر الإمكان أتخلص من العيب ده وإني أحفظ للقريبين مني مساحتهم الخاصة البعيدة كل البُعد عن الظروف اللي ممكن تعطلني عنهم، والحاجة التانية إني بقول لنفسي إن القريبين مني لو هما فعلًا قريبين وعرفوني بجد مش هيزعلوا مني لما ظروفي تمنعني عنهم!، أصل لو حصل العكس يبقى هما فرقوا إيه عن الغُرب اللي محتاجين تفسيرات وأجوبة أول بأول!.

لكن وحتى مع اقتناعي بالنقطة التانية يظل الجزء الأكبر واقع عليا أنا كصاحب للظروف وأنا اللي مسؤول عن تجاوزها عشان التقصير ميحصلش، ومن هنا بيظهر السؤال المهم: هو أنت من اللي بيستسلموا للظروف، ولا من اللي بينتظروا إن غيرهم يتفّهم ظروفهم كل مرة، ولا من اللي بيحاولوا يغيروها؟

من القصص اللي تم ذكرها عن الفنان عبد الحليم حافظ أكتر من مرة في كذا مصدر منهم الصحفي والدرامي إنه في بداية حياته الفنية كان قريب من أغلب الصحفيين بعد ظهوره المُلفت معظمهم بقوا أصدقائه، دعموه لما شافوا فيه نموذج لموهبة متميزة طالعة جديد وتستحق الدعم.. شوية بشوية وبعد ما شهرته بدأت تكبر أكتر جت فترة قصيرة كده بقى فيه فتور في علاقته معاهم.. مفيش سبب ملموس لتوتر العلاقة إلا انشغاله في بروفات أغاني جديدة أو تصوير أفلام كان بيغيب بسببها عن حضور مناسبات اجتماعية خاصة بالصحفيين أصدقائه. 

بمعنى إن ممكن يكون فيه حالة وفاة لوالد واحد صحفي مثلًا فحليم وبسبب انشغاله ميقدرش يتصل يعزيه أو يحضر الجنازة في وقتها، وهكذا برضو لو في عزومة على خطوبة أو جواز برضو ميقدرش يحضر بسبب انشغاله!.

لما كان حد منهم بيلومه على تقصيره معاه دايمًا كان بيعتذر بكلمة واحدة بس (الظروف)! شوية بشوية ولما كانت الظروف بتكتر كانت نفوس الناس بتشيل منه، غصب عنهم بيزعلوا، منهم اللي بيفتكر كلمة (الظروف) دي حِجة بيقولها وخلاص عشان يتهرَّب -(مع إنها كانت حقيقية بالمناسبة)- وقليلين جدًا اللي كانوا بيقدروا الظروف دي.

لحد ما في مرة فيه صحفي كبير زعل منه لأن "حليم" مجاش فرح ابنه.. وقتها حس إنه فعلًا في مشكلة حقيقية ولازم يشوفلها حل؛ جري "عبد الحليم" على الموسيقار "محمد عبد الوهاب" واللي كان متعود يروح ياخد رأيه في أي مصيبة تقابله استنادًا على خبرته في الحياة، حكاله وقاله فلان الفلاني زعلان مني أعمل إيه؟ "عبد الوهاب" رد عليه بجملة: (ما أنت غلطان وهو عنده حق؛ مفيش ظروف مابتخلصش وملهاش آخر يا حليم) سأله: والحل يا أستاذ؟  قاله: (أنت أدرى، شوف مشغولياتك واقعد مع نفسك وفكر؛ مستحيل تلاقيها واخدة وقتك كله).

سهر "حليم" يومها لحد الفجر ووصل لفكرة في قمة الذكاء! قعد 3 أيام متواصلة هو وابن خاله "شحاته" وجاب أجندة كبيرة وكتب فيها أسماء كل الصحفيين اللي موجودين في مصر كلهم؟ آه كلهم بس؟ لأ، تحت اسم كل صحفي منهم اسم مراته وأولاده بس؟ لأ برضو تحت الأسماء دي كلها تواريخ كل المناسبات الاجتماعية المتعلقة بأسرتهم! أعياد جوازهم، أعياد ميلادهم، تواريخ الوفاة، المناسبات الدينية الإسلامية أو المسيحية إلخ، طلب من "شحاتة" كل يوم الصبح وبناءً على الأجندة دي إنه يصحى الصبح يقوله: النهاردة عيد جواز فلان وفلانة، فحليم يتصل يهني أو يبارك.

وكان من ضمن مهمات "شحاتة" كمان إنه يبعت بوكيه ورد لبيت الشخص صاحب المناسبة ويكون مرتب ده من قبلها بيوم مع محل الورد بحيث يوصل البوكيه الصبح بدري في نفس توقيت مكالمة حليم؛ فيبقى الحوار كله شكله تحفة أصلًا! التصرف ده رجّع حالة الود تاني بين "عبد الحليم" وبين الصحفيين يمكن لحد وفاته، رجعها بشكل أقوى وأعمق، وفيه ذكاء، ودي من مميزات "حليم" اللي كان 3/4 موهبته في ذكائه.

ورغم مشغولياته اللي اتضاعفت بعد كدة مع زيادة شهرته إلا إنه دايمًا فِضل محافظ كل يوم على الساعة اللي بيعمل فيها الموضوع ده؛ وبدأ يمسح تدريجيًا من قاموسه كلمة (ظروف) وضاف بدالها جملة "عبد الوهاب" له: (مافيش ظروف ما بتخلصش ومالهاش آخر يا حليم).

معظم الخذلان اللي بنصاب بيه في حياتنا من الناس مهما كان تصنيف العلاقة معاهم سواء صداقة، أو حب، أو قرابة بيكون سببه لوكشة حِجج وظروف.. بيقولوها فبنسمعها.. فبنسامح وبندي فرصة تانية.. فبيفتكروا إننا صدقناها.. هي بتتصدق في الأول فعلًا؛ بس مش بسبب منطقية الحجة قد ما بسبب وفرة مخزون المحبة بتاعهم اللي جوانا.

يعني مثلًا في أي قصة حب اللي عايزك مش هيكتفي بطرح لوكشة الظروف التعجيزية قدامك ويهز كتافه بما معناه (طب وأنا أعمل إيه يعني، أنت مش عارف ظروفي؟)، "الظروف" حواجز اتحطت عشان تتعدى، الولد لو بيحب البنت بجد وشاري اللي بيحبها فعلًا هيصمم مرة واتنين ومليون لحد ما يبقوا مع بعض، والبنت لو بتحب الولد بجد هتعرف تقنع أهلها بيه وتقف في ضهره للنهاية.

الولد بيسند العلاقة في وقت والبنت في وقت، قصتهم بتبقى متعكزة عليهم هما الاتنين وبتقع وتتفشكل لما حد فيهم بينخ، في باقي العلاقات مافيش "ظروف" مالهاش آخر، ومافيش ظروف ما بتخلصش، الجلدة بتاعت حنفية الظروف دايمًا سايبة وبتنقط من ثقة الناس فيك فماتعتمدش عليها كتير، كلمة "ظروف" لو عدتك مرة مش هتعديك التانية ولو عدتك كتير مش هتعديك للآخر.

كلمة "الظروف" اتكسرت بيها قلوب كتير، وكلام كتير اتقال لربنا يشتكي أصحاب الظروف، الشاعر "نزار القباني" قال: (الظروف سفن الراحلين: أحدهم ركبها رغمًا عنه؛ والآخر ركبها بإرادته.. في النهاية من يركب سفن الظروف يرحل ولا يعود).

تابع مواقعنا