أسرار جديدة من داخل الكتيبة 67.. ضابط في سلاح المهندسين بعد نصف قرن: هكذا فتحت ثغرات خط بارليف| حوار
من قلب المعارك على ضفة قناة السويس المشتعلة، وبين دوي المدافع وصيحات الجنود، أخرج الشاب المصري سامي حنا إبراهيم، ورقة وقلمًا صغيرين كان يحتفظ بهما في جيبه العسكري، لم يكن يعلم أن تلك السطور المرتجفة التي خطّها تحت القصف ستتحول بعد خمسين عامًا إلى مذكرات واحدة من أندر الشهادات الحية عن حرب أكتوبر 1973.
"حنا" كان ضابطًا في سلاح المهندسين، شارك في واحدة من أعقد المهام القتالية في الحرب، وهي فتح الثغرات في الساتر الترابي لخط بارليف باستخدام خراطيم المياه، تمهيدًا لعبور وحدات الجيش الثاني شرق القناة.
ومن قلب هذه التجربة كتب مذكراته التي صدرت لاحقًا بعنوان عبور قناة السويس، ليؤرخ فيها للحظة التي تغيّر فيها وجه الشرق الأوسط.
بعد الحرب، غادر إلى الولايات المتحدة عام 1974، حاملًا معه ذاكرة معركة لا تُنسى وكفاح جديد في الغربة، وبعد نصف قرن تقريبًا، عاد إلى مصر ليقابل رفاقه الذين لم يرهم منذ النصر، في لحظةٍ وصفها بأنها انتصار آخر بعد سنوات الغياب.
واليوم، بعد نصف قرن من تلك اللحظة الخالدة، يعود الضابط المهندس سامي حنا ليحكي لـ القاهرة 24 تفاصيل تجربته من قلب المعارك.
كيف التحقت بالخدمة العسكرية خلال فترة حرب أكتوبر؟
التحقتُ بالقوات المسلحة عقب تخرجي من كلية الهندسة بجامعة عين شمس في سبتمبر 1968، وتم التحاقي بسلاح المهندسين، وانضممت إلى لواء الجسور كجندي خريج كلية، وبعد أسابيع قليلة رُقِّيت إلى رتبة رقيب، وأُلحقت بـ كتيبة ناقلات برمائية رقم 47 التابعة للواء الخامس عشر للجسور، حيث تولّيت مسؤولية سرية ناقلات برمائية.

ماذا كان دورك تحديدًا خلال حرب أكتوبر 73؟
كانت مهمتنا إعداد وتشغيل الناقلات البرمائية لعبور المشاة والكتائب عبر العوائق المائية، وخضعنا لتدريبات مكثفة على فروع النيل والقنوات استعدادًا لتلك المهمة.
وفي أواخر عام 1970، وبعد توجيهات الرئيس الراحل محمد أنور السادات، بترقية أفضل خريجي الجامعات إلى ضباط احتياط، التحقتُ بمدرسة المهندسين العسكريين، وتخرّجت في الدفعة 28 أ، وعقب ذلك انضممت إلى الكتيبة البرمائية 67 التابعة للواء الجسور رقم 15، وتولّيت القسم الفني بالكتيبة، مسؤولًا عن صيانة جميع معداتها من حاملات وعبّارات ومركبات، وقُدت فريقًا من الميكانيكيين والكهربائيين والفنيين لتجهيز المعدات استعدادًا لعبور قناة السويس.
وقبيل الحرب، توجهت مع فريقي إلى موقع التجمع لتهيئته لاستقبال قوات الكتيبة ومعداتها، وخلال الحرب تولّيت قيادة سرية الحاملات البرمائية التي تولّت تنفيذ عملية العبور عند المحور رقم 33 على قناة السويس، على بُعد كيلومتر واحد جنوب جسر الفردان شمال الإسماعيلية، دعمًا لقوات الجيش الثاني الميداني.
ما سر نجاح الخطة وتدمير خط برليف المنيع حسب الوصف الإسرائيلي في ذلك الوقت؟
وصلنا إلى الموقع في الساعات الأولى من فجر 6 أكتوبر 1973، ووضعنا معداتنا في فتحات مغطاة لإخفائها عن أعين العدو. وبعد بدء العمليات، قدّمنا الدعم لسلاح المهندسين المسؤول عن فتح ثغرة في خط بارليف على الضفة الشرقية للقناة. بدأ العمل بعد نحو 20 دقيقة من بدء الحرب في الساعة الثانية ظهرًا، واستمر حتى تمكنّا من تجهيز الثغرة التي عبرت منها الناقلات البرمائية لنقل المشاة ومعداتهم ومدفعيتهم ومركباتهم.
استمرت مهمتنا في عبور كتائب الجيش الثاني حتى وقف إطلاق النار في 28 أكتوبر 1973، وكان سر نجاحنا هو إيماننا بالله، وإخلاصنا لوطننا، والتزام كل فرد بواجبه، وجمعتُ جنودي قبل بدء الحرب بدقائق، وخاطبتهم قائلًا: اليوم هو يومنا لنخدم مصر بقلوب مؤمنة وشجاعة.

هل كانت هناك لحظة أو موقف معين لا يزال راسخًا في ذهنك من الحرب من حيث الخطر أو الشجاعة أو التضحية؟
نعم، كانت هناك لحظات لا تُنسى دونتها في مذكراتي، لأنها كانت لحظات حياة وموت في معركة استرجاع الأرض، ومما دونت في مذكراتي: بعد أن أعد المهندسون العسكريون المتفجرات لتفجير الصخور في الساتر الرملي، انسحبنا إلى الشاطئ الغربي للاحتماء أثناء التفجير، كان الانفجار قويًا إلى درجة أن قطع الصخور الصغيرة تطايرت عبر القناة وسقطت على الشاطئ الغربي على بعد خطوات منا.
وعدتُ مع المهندسين إلى الضفة الشرقية وطلبت منهم ضخ المياه لإزالة الرمال والصخور المفتتة، فاستمر العمل أكثر من ثماني ساعات وسط ظروف قاسية وقصف مدفعي وجوي إسرائيلي متواصل، لقد جسّد المهندسون العسكريون أسمى صور البطولة والشجاعة.
وفي نحو الساعة الثامنة مساءً، هاجم سلاح الجو الإسرائيلي موقعنا خلال عملية إزالة الصخور، وحلّقت طائرة على ارتفاع منخفض لا يتجاوز 30 مترًا، وأطلقت رشاشاتها الثقيلة نحو موقعنا، كانت الطلقات كبيرة العيار، والموت مؤكدًا لمن تصيبه.
ماذا كان شعورك في تلك اللحظة؟
في تلك اللحظة، لم أجد سوى الصلاة، وصرخت: «أنقذني يا رب!» وسمعت الجنود يرددون الدعاء نفسه، ألقينا بأنفسنا على الأرض في وضع الجنين، بينما كانت الطلقات تخترق الهواء من فوق رؤوسنا، وبعد دقائق طويلة من الرعب، غادرت الطائرات دون أن يُصاب أي فرد منا، شعرنا جميعًا أن عناية الله كانت تحيط بنا كقبة حديدية تحمينا من الموت.
بعدها استكملنا ضخ المياه وإزالة الأتربة والحجارة حتى تم فتح الثغرة بالكامل في منتصف الليل من يوم 6 أكتوبر، كان اليوم الأول صعبًا، لكنه انتهى بنجاح دون خسائر في الأرواح أو المعدات، وأصبح محورنا من أول نقاط العبور الناجحة على طول القناة.
كيف كانت عملية التخطيط للعبور من الناحية اللوجستية والاستخباراتية؟ وهل واجهتم مفاجآت ميدانية؟
كانت لدينا معلومات دقيقة للغاية عن مواقع قوات الاحتلال على الضفة الشرقية، أما المفاجآت فكانت ميدانية بطبيعتها، مثل العثور على صخور ضخمة داخل الجدار الرملي لم تكن متوقعة.
استعد الجيش المصري جيدًا، فقبل الحرب بعام كامل، تكثفت التدريبات على العبور وفتح الثغرات وبناء الكباري والمعديات، بالتنسيق الكامل بين كتائب المشاة والمدرعات وسلاح المهندسين، وتدرّبنا تحت ظروف مختلفة: ليلًا ونهارًا، في الليالي المقمرة والمظلمة، مستخدمين نهر النيل وقنوات الري في الدلتا لمحاكاة ظروف القتال على القناة، وبنينا سواتر ترابية مماثلة لخط بارليف للتدريب العملي عليها.
ووضعت مصر خطة دقيقة لاختراق خط بارليف عبر إنشاء رؤوس جسور على امتداد القناة لمسافة 175 كيلومترًا، تمهيدًا لعبور القوات وتدمير التحصينات، كانت التحصينات الإسرائيلية معقدة، تضم دشمًا خرسانية، وصخورًا، وخطوط دفاع متعددة، إضافة إلى طبيعة القناة نفسها من عمق وعرض وتيارات قوية ومتغيرة الاتجاه، ما جعل عملية العبور تبدو مستحيلة نظريًا، لكنها تحققت عمليًا بفضل الإعداد الهندسي والعقيدة القتالية الفريدة للجندي المصري.

كيف كانت الحالة النفسية للجنود والضباط خلال العملية.. وهل كان للإيمان والعزيمة أثر ملموس؟
حتى قبل بدء الحرب بدقائق، لم أكن قد أبلغت جنودي بموعدها، حفاظًا على السرية، لكن في الساعة الواحدة ظهر السادس من أكتوبر، جمعتهم، وأخبرتهم أن الساعة قد حانت، ألقيت فيهم خطابًا حماسيًا من القلب، قلت فيه: نحن رجال مصر الذين استعدوا لهذه اللحظة منذ 6 سنوات، إن فشلنا اليوم، فلن تُتاح لجيلنا فرصة أخرى لتحرير سيناء، اليوم يوم الشجاعة والثبات، لا رجوع ولا تردد.
كيف كانت ردود أفعالهم؟
راقبت وجوههم، ورأيت فيها الإيمان، والعزيمة، والاستعداد للتضحية، كانت تلك لحظة القرار، لحظة الحقيقة التي صنع فيها جنود مصر معجزة العبور.

بعد انتهاء الحرب كيف أثّرت تلك التجربة عليك شخصيًا ومهنيًا؟
بعد إنهاء خدمتي العسكرية في يونيو 1974، التحقت بالعمل المدني، وشغلت منصب نائب رئيس شركة توزيع الغاز الطبيعي، ثم شاركت في إدارة عدة شركات أخرى بعد اندماجات ناجحة، وتعلمت من الحرب كيف أواجه التحديات بثقة، وكيف أقود فرق العمل في الأزمات، ولقد شعرت ببركة الله ترافقني في حياتي المهنية والعائلية، كما رافقتني في الحرب.
كيف ترى تأثير حرب أكتوبر على صورة مصر الخارجية وعلاقاتها الدولية؟
حظي انتصار مصر في حرب 1973 بتقدير عالمي واسع، ودرست العديد من الدول تجربة الجيش المصري في التخطيط والعبور والقتال كحالة نموذجية في الإرادة والإبداع العسكري.
واحترم العالم مصر ليس فقط لانتصارها العسكري، بل لأنها اختارت طريق السلام من موقع القوة، فالحرب تُدمّر، والسلام يبني، ومصر أثبتت قدرتها على كليهما النصر والسلام، وهو ما عزّز مكانتها واحترامها الدولي.

ماذا عن قصة هجرتك بعد إلى الخارج بعد الحرب؟
أنهيت خدمتي العسكرية في يونيو 1974، وتزوجت، ثم هاجرنا إلى الولايات المتحدة في أكتوبر من العام نفسه، بدأنا حياتنا في منطقة نيو إنجلاند، كانت سنوات الهجرة الأولى امتدادًا لمعركة أخرى، لكنها هذه المرة ضد الغربة والتحديات، لا ضد العدو، إلا أن الله وفقنا كثيرًا في مسيرتنا.
وعدنا إلى مصر في سبتمبر وأكتوبر 2023 للاحتفال بالذكرى الخمسين للنصر مع ثلاثة من زملائي ضباط كتيبة الناقلات البرمائية، وكان احتفالًا مهيبًا ومؤثرًا، جمع بين الذكريات والفخر، ختمته من قلبي بعبارة: تحيا مصر.. تحيا مصر.. تحيا مصر.










