خدعة المرض العضال وإجازة الجنود.. هكذا أوهمنا إسرائيل خلال حرب أكتوبر 1973
في معركة لم تُخَض بالسلاح التقليدي وحده، بل بالكلمة والصورة والمعلومة الموجَّهة، تحولت وسائل الإعلام المصرية إلى أداة استراتيجية ضمن خطة خداع دقيقة تبنتها القيادة المصرية، فلم يكن دور الإعلام مقتصرًا على التغطية فقط، بل كان جزءًا من منظومة تخطيطية هدفت إلى تضليل العدو وإرباك تقديراته بشأن نوايا وقدرات القوات المسلحة.
كيف نجح الإعلام المصري في التحول إلى أحد أعمدة النصر خلال حرب أكتوبر عبر دوره في التهيئة النفسية، الخداع الاستراتيجي، والتغطية الوطنية المحترفة، من هزيمة 1967 إلى وعي السبعينيات، كان الإعلام جزءًا من إعادة بناء الوعي الوطني وتهيئة الشعب لمعركة التحرير، ليخرج من دور المتلقي إلى دور الفاعل في مسرح الحرب والسياسة.
تمهيد نفسي وخداع استراتيجي
خُططَت الرسائل الإعلامية بعناية فائقة عبر الصحافة والإذاعة والتلفزيون لتصوير مصر على أنها غير مستعدة للحرب وغارقة في أزمات داخلية، وأنها ماضية في حل سلمي للمشكلات، فتم تنسيق هذه الرسائل بين الجهات الإعلامية والأجهزة السيادية بما جعل الإعلام جزءًا لا يتجزأ من التخطيط العسكري والسياسي، وأدى ذلك إلى خلق صورة ذهنية مضللة لدى أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
تكتيكات التضليل
تضمنت التكتيكات نشر تقارير عن معاناة اقتصادية، ونقص في التسليح، وأن بعض الضباط والجنود في إجازات طويلة، إلى جانب شائعات محسوبة، من بينها أن صحة الرئيس الراحل أنور السادات تدهورت وسافر للعلاج في أوروبا، كل ذلك بهدف تعزيز قناعة العدو بأن القيادة المصرية غير قادرة على خوض عملية عسكرية في ذلك التوقيت، هذا الخداع الإعلامي جرى تحت إشراف دقيق وتنسيق بين الإعلام والأمن والمخابرات.
خدعة المرض الخطير.. كيف أوهم السادات الموساد بعملية تمويه محكمة قبل حرب أكتوبر؟
في كتابه أسرار السادات، يكشف الكاتب توحيد مجدي، استنادًا إلى وثائق أمريكية سرية للغاية من ملفات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، عن واحدة من أخطر وأذكى حلقات خطة الخداع الاستراتيجي التي سبقت حرب أكتوبر 1973، لكنها قلّما ذُكرت في السرديات التقليدية للحرب.
الرئيس مريض؟!
في الأسبوع الأول من سبتمبر عام 1973، سُرّبت معلومات شديدة الحساسية تفيد بأن الرئيس أنور السادات يعاني من مرض خطير، وأن حالته الصحية تستدعي تلقي العلاج في فرنسا خلال أول أسبوعين من شهر أكتوبر، وهو ما يستلزم مغادرته البلاد لفترة.
خدعة محكمة بدأت في الجزائر
بحسب الوثائق التي استند إليها الكاتب، كان السادات حينها يشارك في مؤتمر دول عدم الانحياز بالجزائر، وفي توقيت دقيق، تعمّدت المخابرات المصرية تسريب "الخبر السري" عن مرضه إلى أحد الدبلوماسيين الجزائريين، الذي كانت القاهرة قد رصدت ارتباطه سابقًا بالموساد الإسرائيلي.
جرى تكليف دبلوماسي مصري يعمل سرًا مع جهاز المخابرات العامة بمهمة خاصة خلال المؤتمر، وهي التقرّب من هذا الدبلوماسي الجزائري وتوثيق علاقته به، تمهيدًا لإيصال معلومة مضللة على أعلى مستوى من الخداع.
اللقاء الحاسم والمعلومة المسمومة
في اليوم الرابع من المؤتمر، نفّذ الدبلوماسي المصري خطوته الحاسمة، أوهم الجاسوس بأنه يمتلك سرًا بالغ الخطورة، لكنه في أمسّ الحاجة إلى المساعدة بشأنه. استشعر الجاسوس أن بين يديه فرصة ذهبية لتقديم معلومة "نادرة" للموساد، فسارع إلى تقديم خدماته.
هنا، أخبره الدبلوماسي المصري أن الرئيس السادات مريض للغاية، ويحتاج إلى فيلا خاصة في فرنسا ليقيم بها خلال فترة علاجه في أكتوبر. وطلب منه، برجاء شديد، أن يحافظ على سرية الأمر التامة، حتى لا يتسبب في فضيحة سياسية أو دبلوماسية.
الموساد يبتلع الطُعم
وافق الجاسوس بالفعل وساعد في شراء الفيلا المزعومة. وبحسب الوثائق الأمريكية، فقد لعبت المخابرات المصرية دورًا إضافيًا لإحكام الخدعة: اختفى السادات عن الأنظار فور عودته من الجزائر، وتم الترويج داخليًا وخارجيًا لفكرة مرضه، ما عزز قناعة الموساد والمخابرات الأمريكية بأنه يمكث بالفعل في فرنسا لتلقي العلاج.
وفي هذه الأثناء، كانت الاستعدادات الحربية المصرية على قدم وساق، بعيدة عن أعين العدو الذي انشغل بتحليل مؤشرات مضللة، في مقدمتها اختفاء الرئيس نفسه.
هكذا نجحت واحدة من أكثر عمليات الخداع ذكاءً في التاريخ العسكري الحديث، حيث تحوّلت شائعة مدروسة بعناية عن صحة الرئيس إلى سلاح نفسي أطاح بتقديرات العدو الاستخباراتية، وأسهمت في تمهيد الأرض للعبور العظيم في السادس من أكتوبر.
الإعلام يتحول إلى جبهة موازية
عند ساعة الصفر، انتقل الإعلام المصري من أداة خداع إلى جبهة دعم ومواجهة؛ فمع عبور القوات المسلحة قناة السويس، عملت وسائل الإعلام على توثيق الانتصارات ونقل صورة متوازنة وموثوقة عن مجريات المعركة، لم يكن الهدف مجرد تهليل، بل تقديم سردية موثوقة تدعم البيانات العسكرية، من خلال نقل تصريحات القادة الإسرائيليين والمراسلين الأجانب الذين اعترفوا بالهزيمة، ما عزز مصداقية الرسائل المصرية وأفقد العدو السيطرة على روايته الإعلامية.
بعد النصر.. الكلمة سلاح يعادل البندقية
في مرحلة ما بعد الحرب، استُخدمت الصحافة والقلم لتوثيق بطولات الجنود واستعادة الكرامة الوطنية، كما ركّزت التغطيات على الدور القيادي للرئيس السادات ووحدة الجبهة الداخلية.
لعب الإعلام دورًا في تهدئة النفوس، تعزيز الثقة بين المواطن والدولة، وزرع الشك في تقديرات العدو، بهذه الصورة، وأثبتت التجربة أن الكلمة قد تكون طلقة في معركة الوعي تكمّل ما حققته البنادق في الميدان.


