مفاوض غير رسمي.. كيف أسقط الفن جدار التزييف حول فلسطين وغيّر وجهة نظر الغرب؟
لم تكن عملية طوفان الأقصى مجرد حدث عسكري غير مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل كانت نقطة تحول في الرواية العالمية، حيث انقلبت الطاولة على السردية الغربية السائدة، ففي ظل الحصار، وفي غياب العدالة السياسية، لم يبقَ إلا الفن ليمثل الشعوب.
ومع تصاعد الأحداث في الأراضي الفلسطينية عقب عملية طوفان الأقصى، لم تكن أصوات الفنانين مجرد صدى عاطفي، بل تحوّلت إلى قوة تفاوض موازية، تنقل الحقيقة وتعيد تشكيل الوعي الغربي تجاه القضية الفلسطينية، الفن لطالما كان مرآة الشعوب، لكنه في فلسطين صار درعًا وراية، وأداة لفَضح الاحتلال وكشف ازدواجية المعايير الغربية التي اختزلت الرواية لعقود طويلة في مشهد واحد: أمن إسرائيل.
ما حدث بعد السابع من أكتوبر 2023، لم يكن سياسيا فقط، بل ثقافيا وإعلاميا أيضا، فأصوات الفنانين، من فلسطين إلى نيويورك، ومن غزة إلى مهرجان كان، كسرت جدار الصمت، وأسقطت الهيمنة الإعلامية التي طالما روجت لرواية واحدة.
وفي خضم هذا التحول المفاجئ في وعي العالم، لم يكن صوت الفنان الفلسطيني غائبًا. بل كان حاضرًا بوضوح، وبقوة من يعرف تمامًا أن معركته ليست فقط على الأرض، بل على الذاكرة والبصيرة.
وتواصل القاهرة 24 مع الدكتور محمد عبد الحميد الزهار، الباحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية، لمعرفة رأيه في دور الفن وهل ساعد في هذا التحول، فقال: الفن أصبح ساحة موازية للضمير الإنساني. بعد طوفان الأقصى، شهدنا نقلة نوعية في الوعي الغربي، حيث بدأ الفنانون العالميون يكسرون حاجز الصمت ويواجهون الرواية الإسرائيلية.
وأضاف: بعض الفنانين دفعوا ثمن مواقفهم، وهو ما يكشف أن حرية التعبير في الغرب مشروطة بموقفك من إسرائيل. ومع ذلك، لم يتراجعوا. لأن الفن، في جوهره، لا يمكن أن يكون محايدا أمام القتل والتطهير العرقي.
من النكبة إلى الكاميرا: الفن الفلسطيني في مواجهة التزييف
من المسرح إلى الشاشة، ومن الأغنية إلى الريشة، عبّر الفنانون الفلسطينيون عن واقعهم بلغة تفضح القمع وتنتصر للحقيقة، مؤكدين أن الفن في فلسطين ليس ترفًا ولا ترفيهًا، بل مقاومة ناعمة تحمل في طيّاتها رواية شعبٍ يحاول الاحتلال طمسه منذ عقود.
وهنا، نستعرض أبرز ما قاله الفنانون الفلسطينيون عن دور الفن بعد "طوفان الأقصى"، وكيف تحوّل إبداعهم إلى جبهة مواجهة لا تقل تأثيرًا عن أي ميدان آخر، حيث علت أصوات الفنانين الفلسطينيين لتؤكد أن الإبداع ليس حياديا أمام الإبادة.
منال محاميد الفنانة التشكيلية، قالت لـ"القاهرة 24": اللوحة عندي ليست تعبيرا فقط، بل وثيقة. الفن هو مواجهتي الشخصية مع الاحتلال. كل عمل فني أقدمه هو كسر للصورة النمطية التي صنعها الإعلام الغربي عنا. الفن أقوى من الدبابة إذا وصل للوعي.
أما شادي زقطان، المطرب والشاعر، فأكد أن الفن الفلسطيني جزء من المعركة. حين تغني لأرضك تحت الحصار، فأنت توثق وتواجه وتستنهض العالم. الفن مش حيادي، لأنه يا مع الحياة، يا ضدها.
كما أشارت المخرجة مي مصري، إلى أن الفيلم هو جواز سفر لحقيقتنا، لا أنتظر من السياسيين أن يقولوا الحقيقة، أنتظر من السينما أن تظهرها. والصورة إذا لم تعرض للعالم، يكتب التاريخ من طرف واحد.
الفن بين غزة وهوليوود: ضمير عالمي جديد يُولد بعد طوفان الأقصى
لأول مرة منذ عقود، شهدنا تحركا واسعا من نجوم الصف الأول عالميا دعما لفلسطين، في كسر علني للرواية الإسرائيلية، أنجلينا جولي قالت في تصريحات لمواقع أجنبية: ما يحدث في غزة ليس نزاعا، بل جريمة ضد الإنسانية. السكوت عنها تواطؤ.
بيلا حديد كتبت عبر حساباتها: أريد أن أستيقظ وأعرف أن أطفالي لن يولدوا تحت الاحتلال. فلسطين ليست قضية سياسية، بل إنسانية.
Dua Lipa طالبت بوقف القتل مؤكدة: لا يمكننا الصمت عندما يذبح الأبرياء.
مارك رافالو صرح: يجب وقف الدعم غير المشروط لإسرائيل. من الصعب أن تكون إنسانا ثم تبرر هذا القصف.
سوزان ساراندون رغم خسائرها المهنية، قالت: إذا خسرنا أعمالنا من أجل قول الحقيقة، فهذه خسارة مشرفة.
أصوات ما بعد الصمت: الفن يواجه الاحتلال ويتحدى النفاق الغربي
لم تكن المهرجانات هذا العام كعادتها. الفن العالمي بدأ يعبر عن غضب دفين طالما أسكت، وشهدت منصات السينما والموسيقى والموضة مظاهر تضامن غير مسبوقة: في مهرجان كان السينمائي: ارتدت فنانات الكوفية الفلسطينية، ورفعن شعارات مثل Free Palestine.
في مهرجان Coachella: فرقة Kneecap الأيرلندية رفعت شعار: إسرائيل ترتكب إبادة جماعية.
عبر مبادرة Artists4Ceasefire: أكثر من 200 فنان عالمي وقعوا بيانا مطالبين بوقف إطلاق النار الفوري في غزة وإدخال المساعدات الإنسانية.
و في النهاية، أكد الناقد الفني طارق الشناوي أن الفن الفلسطيني اليوم ليس مجرد إبداع فني بل هو "فعل مقاومة حضارية" ينجح في اختراق الحواجز الثقافية والسياسية التي حاولت طمس الحقيقة. قال الشناوي: ما يحدث الآن بعد عملية طوفان الأقصى، هو انتفاضة فنية على مستوى العالم.
وأضاف: الفن أصبح الوسيلة الأكثر صدقًا لإيصال الرسالة الإنسانية وتعبئة الرأي العام، حتى أن ردود الفعل التي شهدناها من نجوم عالميين كانت نتيجة مباشرة لتلك الرسائل الفنية
الفن كمفاوض غير رسمي
يقول الدكتور الزهار: ما عجزت عنه طاولات التفاوض حققه الفنانون. أعادوا الإنسان الفلسطيني إلى الواجهة، بعدما حاول الإعلام دفنه تحت ركام الصورة المنحازة.
ويتابع: الفن بات يؤثر في الرأي العام الغربي، ويمارس ضغطا أخلاقيا على الحكومات. وهذا يعيد تعريف القوة الناعمة كأداة سياسية مؤثرة.
اليوم، لم يعد ممكنا فصل الفن عن السياسة. أصبح الفنان يقف كـ مفاوض أخلاقي، يحمل صوته كما يحمل القلم والدبابة والمذكرة الدبلوماسية، فلسطين لم تعد تظهر في الإعلام الغربي كـ خبر عاجل، بل أصبحت حكاية تغنى، ترسم، وتعرض على الشاشات، بفضل من قرروا ألا يكونوا شهود زور على الألم.
وفي معركة الوعي، لا صوت يعلو فوق صوت الفن حين يكون نزيها، صادقا، وجريئا.. وفي زمن تختلط فيه الأكاذيب بالحقائق، يبقى الفن هو اللغة التي لا يمكن تزويرها.


