بائع الحظاظات | قصة
1
تأرجحت بنا الحافلة كأننا في الملاهي، أو نخوض سباقا احتدمت فيه المنافسة، كان السائق يذرع الطريق ذرعا، والركاب أصابهم الخوف وقد خشوا أن يحدثوه فيغفل عن الطريق، فتكون طامة عليهم جميعا.
فجأة توقف السائق، فصعد شاب طويل القامة حليق الوجه والرأس بشرته بيضاء وعيناه ملونتان، ويتحدث بصعوبة قليلا ومن المفارقات أنه كان مهندم الهيئة إلا قليلا، كان هذا الفتى يحمل في يده مجموعة من الحظاظات وأبرز التي يتوسط حباتها السوداء كلمة «أمي» مصنوعة من المعدن.
استعرض بضاعته أمام الناس، غير أن غالبيتهم رفضوا، وقبل أن يأتيني ناديته من آخر الحافلة، فتقدم نحوي وعيناه تلمعان بالفرح، وقف قُبالتي قائلا: "مكتوب عليها أمي". كان يقولها بمنتهى الفرح ربما ذكرته بوالدته أو ربما كلمة أمي لها سحر ووقع على الناس جميعا فأصبه شيء من هذا السحر خلاب المشاعر والأحاسيس، إلا أن الركاب لم يشعروا به، كأنهم في وادٍ وهو في ملكوته الخاص.
قلت إنني أريد أن أرى بقية مجموعته، فنقبت بعيني فأعجبني اثنيتن، واحدة تحمل الخرزة الزرقاء والأخرى تحمل بعض المربعات البيضاء التي تحمل أحرفا إنجليزية، راقا لي ثم أخذت واحدة منهما ووضعتها في معصمي الأيسر، فقد فقدت خاصتي صباح اليوم مما ضايقني قليلا، فكلما نظرت إلى معصمي أحسست أن جزءا منه مفقودا، فالسوار البلاستيكي الذي كان يحيط به ويسمى بين الناس بالحظاظة، كأن يعطي لمعصمي هيبة كأنه يرتدي تاجًا.
كان جالسا على المقعد المقابل لي، ابتسم نصف ابتسامة وكانت عيناه الخضراون مصوبتين نحوي، فلما نظرت فيهما وجدت إنسانا خاليا من آثم هذه الدنيا، شخصا يريد أن يفرح رغم انعدام كل أسباب الفرح، فتى في العشرينيات من عمره يبحث عن نصفه الثاني غير أن بحثه باء بالفشل وصدق حدثي.
أخرجت 15 جنيها ثمن الحظاظتين، فقال لي إنه لا يملك 3 جنيهات، فأومأت برأسي ألا بأس عليك؛ وبمنتهى براءة الإنسان الأول قال: "أنت مسامح". انفطر قلبي من كلمة مسامح، فرددت عليه: وهل أخطأت لكي أسامحك!! هو لا يعلم أنه أول إنسان أقابله منذ أسابيع ولا يحتد عليّ، كأن البشر اجتمعوا على قتلي ببطء دون أي دراية منهم، فصارت روحي مهترئة، حتى جاء فداواها من بعد سقم.
ترجل بعيدا عني والبسمة تعلو وجهه، وآثرها ما زالت ترتسم على قسمات وجهي وتدور أسرارها حول قلبي. وقبل أن يهبط من الحافلة استوقفه مسن لكي يشتري منه حظاظة، فقال له بحس كبار السن الفكاهي: ما هذا، فرد عليه: "إنها أمي، مكتوب عليها أمي"، فرفع المسن حاجبه واضعا سبابته وإبهامه على ذقنه متصنعا التفكير، ثم سأله فجأة: الست متزوجا؟ أو تبحث عن زوجة، على وقع سؤال المسن تصلبت ملامح الشاب الأشقر وبدأت عيناه تتجه إلى الأرض وفي أقل من ثوانٍ تكلم، وكانت كلماته تخرج من بين شفتيه كأنه صغير يحبو ما زال يتعلم الحديث.
2
منذ أسبوع كنت في قريتنا، استبد بي الشوق وصرت أحس أن وحدتي تلك تقتلني، لم أعد أستطيع أن أعيش وحيدا، خاصة وأنني قريبا سأطرق باب الثلاثين، إني أحتاج إلى من تنتشلني من هذا الوحل، وتنقذني من شبح هذا الموت.
خلال يوم كامل ظللت أفكر كيف أقدم على الزواج حقا، مَن ستقبلني حقا، أنا فقير لكن قلبي كبير ومشاعري نبيلة، صارحت أمي بذلك، فتهللت أساريرها فرحة، فجرت تعدو نحو أحد البيوت، حيث جيراننا الذين يشابهوننا في الحال. كان لجيراننا ابنة ذات شعر كستنائي وعيون موغلة في العتمة وبشرة كأنها السماء في أعلى درجات صفائها، نظرة منها تذبحك صبرًا، وإذا كنت من الفائزين وسمعت صوتها الشجي، لقلت إن ملاكا يصلي لأجل البشر.
حددت أمي معادا للذهاب إلى بيتهم المتواضع مثل بيتنا أو هو أقل تواضعا، ارتديت بدلة كنت قد اشتريتها منذ سنين لمثل هذا اليوم والحمد لله لم يتغير حجمي كثيرا، فكانت مثالية عليّ.
جلست وكنت في أعلى درجات السعادة، حتى أبي الذي لم أره يضحك منذ عَقد كامل إذ خاصم الضحك من بعد وفاة أخي، كان منتشيا تتراقص الدموع حول محجريه، وكأن القدر ربت على قلبه الذي أثخنته الأحزان.
شاركنا الجلسة والدتها وأخواتها الصغار، عدا أخوها الأكبر لم يظهر، دخلت ترتدي عباءة حمراء بلون الدم القاني، مطرزة ببعض الأشكال ذات الطابع الجنوبي، ثم قدمت لي كأسا من الشربات ثم ناولت الجميع تباعا.
في البداية كان حديثنا كله ضحك ومزاح، واستعادة للأيام الخوالي، والذكريات التي ربما كدت أفقدها لولا أن هذا التجمع قد بعثها مجددا إلى ذاكرتي. وحينما شرعنا في الحديث عن تحضيرات الخطبة والزواج وكانت في متناول يدي، حتى باغتنا شقيقها الأكبر وكأنه ظهر من العدم، متجهم الوجه مكفهرا، عيناه تكدان تقتلان الحاضرين من بشاعتهما، حد أن الدماء تجمدت في عروقي.
قال بصوته الجهوري: يا أمي، هل هذا يليق بنا، أتريدين أن تتزوج أختي من متسول يجوب الطرقات والشوارع ليبيع بعض الخردوات البائسة مثله؟!، هل يقدر على شراء مشغولات ذهبية بـ 100 ألف جنيه؟!!
حزت في نفسي كلماته، ووخزت فيّ كل حصون الكرامة لدي. حاولت والدته أن تهدئ من روعه إلا أنه ووفقا للأعراف هو رجل البيت من بعد وفاة والده، بكل ما أوتي من قوة رفض الزيجة واعتبرها مهزلة، قمت من موضعي أهتز قليلا غير أنني صحت فيه أن يتوقف عن إهانتي وإهانة أبوايا، فما كان منه إلا أن دفعني بقوة حتى ارتطمت بالأرض، وصرخت النساء جميعا، وجرت أمه نحوه ضاربة بمعصمها على صدره بكفها، وشقيقته كانت تبكي بحرقة لأنها تعرف القادم.
عرفنا بعد ذلك أن صديقا له يعمل بتجارة المواشي والأغنام، وعده أن يشاركه في أعماله وبنسبة كبيرة، نظير أن يتزوج شقيقته الحسناء، فوافق من فوره دون أي شروط، هو في الحقيقة لم يكن يحب شقيقته ويعتبرها عبأ ثقيلا على صدره إذ كان ينفق كل أمواله على لياليه الحمراء وسهراته الصفراء، وفكرة الانفاق على شقيقته الوحيدة كانت تزعجه حتى إنه حرمها من تعليمها الثانوي، بحجة أن التعليم يفسد أخلاق البنات.
تحطمت تماما، وأحسست وقتها أن فقري يعيبني ويحجب كل اللحظات السعيدة عني ولو لثانية واحدة، بعد هذا الموقف اتجهت إلى القاهرة ملاذي وملجأي، أسرح في شوارعها وأزقتها، وطرقاتها، التي أرهقتها عجلات السيارات والشاحنات، في هذه المتاهة الكبيرة أنا أعيش، وأظن أنني أيضا سأموت.
3
هل هذه قصة أم فيلم سينمائي؟ وهل هذا حاله هو أم حال الكثيرين؟ وفي أي غابة استحالت حياتنا إليها حتى أسمع مثل هذه المأساة، أنهى هذا البائع الشاب حكايته مع المسن، ثم فارق الحافلة، تاركا أثرا في صدري لن ينمحي أبدا.










