إنها مصر الكبيرة
عامان من حرب هي الأطول في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، دارت رحاها في قطاع غزة منذ عملية السابع من أكتوبر، خلفت عشرات الآلاف من القتلى والمصابين، وجرائم حرب ارتكبها العدو الإسرائيلي لم يشهدها التاريخ المعاصر، وحصار خانق تسبب في تجويع قرابة مليوني إنسان، وممارسات استفزازية قام بها جيش الاحتلال كان من الممكن أن تجعل المنطقة تنفجر بالكامل في أي لحظة.
قابل ذلك تفاعلا شعبيا عالميا مع القضية الفلسطينية لم يحدث من قبل منذ إنشاء دولة إسرائيل على أرض فلسطين عام 1948، ورغم فداحة الثمن، إلا أن ذلك يعد مكسبا كبيرا لهذه القضية التي كانت قد ماتت بالفعل، ثم بعثت من جديد بصورة أقوى، لدرجة أن عشرات الدول أعلنت اعترافها بالدولة الفلسطينية مؤخرا، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، مما أصاب الاحتلال بحالة من الهزيمة النفسية، زادت مع ما شهده من عزلة عالمية لأول مرة في تاريخه، وقد ظهر ذلك بوضوح خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث انسحبت أغلب الوفود من القاعة وقت إلقاء نتنياهو خطابه.
خلال كل تلك الفترة كانت هناك محاولات لعقد صفقات تبادل أسرى ووقف لإطلاق النار بوساطة مصرية قطرية، وبالفعل تم ذلك مرتين، إلا أنه في كل مرة لا يصمد الاتفاق وتعود الحرب أشد ضراوة وتزداد المعاناة.
كانت استراتيجية إسرائيل دائما هي الإمعان في قتل المدنيين للضغط على المقاومة من أجل الاستسلام، ورغم الألم صمدت المقاومة ومعها أهل غزة الذين سيقف التاريخ لتضحياتهم احتراما.
إلى أن وصلنا إلى حدث في غاية الغرابة، فقد قامت إسرائيل بقصف الدوحة بهدف اغتيال قادة حركة حماس أثناء اجتماعهم لبحث مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف إطلاق النار، ولكن تلك العملية فشلت، حيث نجا قادة حماس من هذا الاستهداف، ولكن ظل أثر تلك الحادثة السياسي ودلالاته باقيا، حيث أدرك الجميع أن هذا الكيان لا يرى خطوطا حمراء.
خلال أيام كشف ترامب عن خطته لوقف الحرب، ووجه الدعوة لدول إسلامية وعربية، وكان أبرزها مصر وتركيا، لحضور اجتماع لعرض خطته، وبالفعل حدث وتم الإعلان عن موافقة الدول المشاركة عليها.
إلا أن بنودها التي أعلنت بعد ذلك كانت مجحفة للغاية، وتهدي الكيان نصرا لم يستطع الحصول عليه بكل ما مارسه من إجرام رغم منحه الفرصة كاملة لحسم المعركة بالقوة لكنه لم يتمكن من هذا، وقيل إن تعديلات طرأت عليها بعد عرضها على الدول العربية والإسلامية، وانتظر الجميع رد حماس الذي جاء سريعا وذكيا للغاية، حيث لم يكن بوسعهم رفض الخطة التي توافق عليها الجميع وسط معاناة تزداد لسكان القطاع والوصول لحال لم يعد محتملا، فكان بيان الحركة أنهم يقبلون الخطة بشروط، ولم يأتوا على ذكر مسألة نزع السلاح خلال البيان، وبدوره سارع ترامب بالاحتفاء بفكرة القبول المبدئي، ووصف حماس بأنهم يريدون السلام، ونشر بيانهم البيت الأبيض بعد أقل من ساعة على صدوره، وكأن ترامب هنا تلقف الفرصة التي يسعى إليها ويتمناها بأن يصبح رجل السلام في العالم، فهو لا يخفي رغبته في الحصول على جائزة نوبل.
وبشكل سريع تم الإعلان عن زيارة وفود إسرائيل وحماس لمصر وليس قطر كما كان يحدث دائما، والتحقت وفود تركية وأمريكية، وبدأت المباحثات التي لم تطل ليتم الإعلان عن التوصل لاتفاق حول المرحلة الأولى لوقف إطلاق النار تمهيدا لإنهاء تام لتلك الحرب المهلكة.
هنا بدا أن مصر هذه المرة حرصت على أن يكون الأمر على أرضها لخطورته، ولتكون الأمور تحت السيطرة، وربما ما لم يتم الإعلان عنه أن الهدف كان ضمان اتفاق متوازن لا يقصي حماس نهائيا أو ينهي وجودها، لأن ذلك ليس جيدا للأمن القومي المصري لأسباب تعلمها الأجهزة التي كانت حاضرة بقوة في المشهد، حيث ظهر رئيس المخابرات العامة المصرية في الصور التي خرجت للاجتماعات.
وما يؤكد ذلك أن أخبارا تم تداولها حول استياء دول عربية رأت أن هناك فرصة سانحة لإنهاء حماس، وأن مصر غير راغبة في ذلك، وهو الأمر الذي يشعرنا بعظمة مصر التي كانت وما زالت وستظل حجر الزاوية ورمانة الميزان عندما تختل الأمور أو يشت البعص، وهكذا يتضح لماذا حرصت مصر على أن يكون مشهد النهاية على أرضها.


