جنان وأصحاب
• مينفعش إن حد فينا يمر على الدنيا بدون ما يجرب جرعة جنان معينة تصدر منه في تصرفات معينة تخالف كل المنطق والتوقعات، ويا سلام لو كان شريكك في التصرفات الجنانية دي صديق!.. وقتها تقدر وأنت مغمض عينك تضرب الجنان في إتنين وفي عشرة وفي ألف ويا ويل اللي يشوف جنانكم.
الحياة مستحيلة بدون جنان، وبدون أصدقاء يشاركوك تصرفات مجنونة، بمراجعة كل واحد للجملة اللي فاتت هتكتشف إن اللي كان مدي طعم لفترات معينة في حياتك هما وجود العنصرين دول، صديق عنده قدر من الجنان!.. أيام الثانوية العامة كنت بحب واحدة وهي ماتعرفش، ماكنتش الموبايلات لسه انتشرت بالشكل ده، كنت عارف بيتهم بس كنت عايز أجيب رقم تليفونهم الأرضي عشان بس أتصل وأسمع صوتها وأقفل السكة! طب أجيب الرقم إزاي؟ من 140 دليل! طب أنا ماعرفش اسم أبوها ثلاثي عشان أجيب الرقم!.
والدها دكتور وأكيد اسمه مكتوب على باب الشقة على يافطة، تمام خلاص يبقى هلعب على الاحتمال ده.. بس إزاي هدخل العمارة وأعدي من البواب الضخم اللي سادد المدخل تحت؟.. قعدت أفكر كذا يوم والحكاية مقفلة من كل ناحية، لغاية ما جه "حسام" صاحبي وقال لي بثقة: (اعتبر الرقم عندك) سألته: (إزاي! هتعمل إيه؟).. قال: مالكش فيه المهم الرقم يجيلك، أنت بس عرفني الدور الكام وأنهي شقة واستناني جنب العمارة الساعة 7 الصبح، قولت ماشي!.
تاني يوم انتظرت جنب العمارة بتاعتها لقيت "حسام" جاي لابس جلابية قديمة ومقطعة ومبهدلة وماسك في إيده شوال!، فركت عيني من الاستغراب وقولت له: (إيه ده يا ابني؟ أنت متخلف؟).. اِتلفّت حواليه وقال: (هششششش فكرني تاني بالدور ورقم الشقة).. قولتله.. قال: (قشطة استناني هنا ربعاية وجاي).. طلع العمارة.. عمل نفسه زبّال طالع يلم الزبالة!، والبواب عدّاه عادى!.. طلع دور دور لحد ما وصل للدور بتاعهم ووقف قدام باب الشقة وطلع ورقة وقلم وكتب الاسم اللي على اليافطة ولسه بيشيل القلم في جيب الجلابية أبوها فتح الباب وقال: أنت مين؟! "حسام" رد: صباح الفل يا باشا؛ عندكم زبالة؟ أبوها قال: أه لحظة.. دخل جاب له كيس أخده "حسام" ونزل ولزوم حبكة الدور قعد يجمع كام كيس تاني من قدام كذا شقة ونزل بسرعة لحد ما خرج من العمارة وراح رامي الأكياس اللي جمعها قدام المدخل وقلع الجلابية وشالها على كتفه وجالي وهو عرقان وبيضحك وقالي: (الاسم أهو يا تيمو، أي خدعة).. عن طريق الاسم جيبنا الرقم من الدليل!.
بعدها بفترة البنت عزّلت هي وأسرتها من العنوان ده وراحوا مكان جديد ماكنتش أعرفه، وقتها طلع تحدي جديد ليا أنا وحسام، إننا نعرف العنوان الجديد.. كعادته "حسام" استقبل سؤالي بمط شفايفه وهز كتفيه وراسه وهرشها وقال: (ماعرفش بس خلينا نفكر؛ أكيد ليها حل)، أنا كنت عارف العربية بتاعتهم وعارف أرقامها بالتقريب.. قررت إني أنزل أدور في الشوارع على عربيتهم وسط العربيات اللي راكنة ولو لقيتها تحت عمارة تبقى دي عمارتهم الجديدة!.. صغر حجم المحافظة وانحصار الأماكن اللي فيها العمارات الراقية نسبيًا خلّى الموضوع سهل شوية رغم صعوبته.
فضلت أدور في الشوارع 4 أيام كل يوم مش أقل من ساعتين تلاتة ومالقتش العربية، تعبت، كنت قربت أيأس، لحد ما في نهاية اليوم الرابع وأنا مرّوح جه في بالى حاجة: إيه ده أنا بدور في الاتجاه الغلط، أنا عارف مدرستها طب ما أروح وقت خروج المدرسة وأشوفها وهي مروحة مع والدتها وأعرف عنوانهم الجديد!، صح كدة هو ده.
تاني يوم وقفت أنا وحسام، قدام باب مدرستها وشُفناها وهي بتركب عربية والدتها واتحركوا، شاورت لتاكسي وركبت بسرعة أنا وهو وقولت للسواق وبمنتهى الألاطة والثقة: (اطلع يا اسطى ورا العربية البيضاء دي).. الراجل راح مبطل العربية وباصص لنا وقال: (إيه شغل الأفلام ده! اِنزل ياض يا ابن الـ "............." أنت وهو، انزل).
نزلنا واتفقنا هنحاول بكره تاني اتفقنا كمان إننا لو كررنا اللي عملناه في اليوم اللي قبله بالطريقة نفسها هنبقى بنضيع وقت على الفاضي، لازم يكون فيه بديل عملي عن التاكسي، كلمت "أحمد" صاحبي إنه يسرب عربية أبوه من وراه ونتحرك بيها وراهم، "أحمد" عمل ده وهو خايف، اتحركنا بعربية "أحمد" ورا عربيتهم، كل ده حلو.
اللي مش حلو إن "أحمد" بيسوق بس مش كويس قوي يعني ولا أنا ساعتها وطبعًا ولا حسام، واللي زاد وغطى إن "أحمد" ماكنش معاه رُخصة!، فضلنا ماشيين وراهم لحد ما دخلوا منطقة مساكن جديدة، كنا محافظين بصعوبة على مسافة مناسبة بينا وبين عربيتهم عشان ماياخدوش بالهم.. كان قدامنا فيه عربية كارو محملة كراتين سيراميك كتير، ولسوء حظنا "أحمد" استحمر ولبس في العربية الكارو من ورا عشان كان عايز يتفاداها بس فشل.. طاااااااااخ.. السيراميك وقع بكراتينه واتدغدغ مليون حتة وبهدل العربية والراجل العربجي نزل جري علينا وهو ماسك الكرباج وبيصرخ: (شقاااااا عمري).
"أحمد" بيلطم.. "حسام" متنح.. سيبت كل ده ونزلت جري من العربية عشان أشوف عربية أسرة البنت هيركنوا فين.. جري ورايا ابن العربجي اللي كان فاكرني بهرب!، عربيتهم ماشية وأنا بجري وراها وابن العربجي ورايا، لحد ما وصلوا لعمارتهم الجديدة وركنوا قدامها، وقفت من بعيد وأنا بنهج ووقف جنبي ابن العربجي وهو بينهج كمان، ومش فاهم فيه إيه وبيقول بينه وبين نفسه: (إيه المجنون ده).
بصيت له وشاورت على العمارة وقلتله: (الحمد لله أخيرًا بقى، هو ده البيت)، الولد بصّلي بعين مفنجلة والعرق مغرق وشه وقال باستفهام حقيقي وصادق: (بيت إيه؟)، في اللحظة دي انتبهت لشخصيته وقلتله: (يخرب بيتك تعالى يا آبا نشوف حصل إيه هناك)، طلعنا جري برضو عشان نشوف "أحمد" و"حسام" حصل معاهم إيه، لقيت الشباب قاعدين على الرصيف والعربجي لم الحاجة بتاعته وفي إيده فلوس عمّال يعد فيها وكان واضح إنه قلّب "أحمد" و"حسام" في كل اللي معاهم.
"أحمد" رفع رأسه وقالي: (حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا شيخ، أنا مال أمي أنا بس، قلتله: (يا عم صلي على النبي هحوِّش وهديك اللي دفعته والله). رد: (يا عم غور تدفعلي منين بس أنت هتستهبل)، "حسام" سألني: (عملت إيه؟ عرفت البيت؟.. قلتله: آه، "أحمد" وقف وقال: (لأ لحظة لحظة والله صح؟، عرفته بجد والله).. قلتله: آه والله.. قال بتنهيدة: (الله ينور، أهو كدة نبقى طلعنا بحاجة في اليوم المطين ده، صحوبية زفت على دماغكم صُحاب ماوراهاش غير الهم، قعدنا على الرصيف بعدها مش أقل من ساعة نضحك ونهزر ونسينا العربية الملقحة جنبنا ونسينا كل حاجة!.
يمكن تكون الأيام دي عدّت خلاص، والوشوش اتفرقت، واللي كنا بنجري وراه زمان ما بقيناش حتى فاكرين ملامحه، بس كل مرة نفتكر الجنون ده بنبتسم غصب عننا، أمتع لحظات حياتنا عمرها ما كانت اللي ماشية بالمنطق، ولا اللي كانت كلها عقل وترتيب، كانت دايمًا اللحظات اللي فيها تصرف مجنون، وضحكة خارجة من القلب، وصاحب بيشاركك المغامرة وهو مش عارف آخرها فين، علشان كده كل اللي محتاجينه دلوقتي مش هو "العقل" الزيادة اللي خنقنا بيه نفسنا، لكن جرعة الجنان القديمة اللي بتخلينا نغلط ونضحك ونجري عشان نفتكر إن الحياة مش امتحان، الحياة مغامرة، والمغامرة من غير جنان وأصحاب ملهاش معنى.


