الجمعة 05 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

شراكة بثمن العزة.. قمة بروكسل بين مصر والاتحاد الأوروبي

الخميس 23/أكتوبر/2025 - 07:55 م

بين جدران القاعة الأوروبية اللامعة في بروكسل وما يطغى عليها من الهدوء البروتوكولي، والوجوه التي تتقن لغة الدبلوماسية الباردة، كانت الدولة المصرية حاضرة بنبرة مختلفة في مشهد يعيد رسم حدود التوازن بين الجنوب والشمال.

فحين جلست القاهرة على طاولة الاتحاد الأوروبي لم يكن هناك وفود تطلب، ولا كلمات تلقيها من موقع الدفاع، بل حضور دولة تحاول صياغة معادلة جديدة مع القارة العجوز، وحديث واثق يعلن عن مرحلة مختلفة في لغة العلاقات الدولية، مرحلة عنوانها “الشراكة بثقة” لا “المساعدات بشروط”، معادلة تُبقي على التوازن بين الحاجة للتعاون والمبدأ الأصيل في الاستقلال والندية.

التحول من التعاون إلى الشراكة الاستراتيجية

يعد أبرز ما خرجت به القمة هو الإعلان عن تحول العلاقة بين القاهرة وبروكسل من “تعاون” إلى “شراكة استراتيجية”، مصطلح بسيط في ظاهره، لكنه يعكس تغيرًا جوهريًا في موقع مصر الإقليمي والدولي. فالدولة التي كانت حتى وقت قريب تتعامل مع الاتحاد الأوروبي كشريك اقتصادي محدود، أصبحت اليوم تُنظر إليها بوصفها ركيزة للاستقرار في الشرق الأوسط، ووسيطًا موثوقًا في أزمات الإقليم.

وهو ما عبّر عنه رئيس المجلس الأوروبي، أنطونيو كوستا، حين قال إن مصر تلعب دورًا محوريًا في تحقيق الاستقرار الإقليمي ومكافحة الهجرة غير الشرعية والإرهاب”، فتلك الشهادة السياسية لم تأتِ مجاملة، بل نتاج سنوات من الجهد المصري في إدارة ملفات معقدة، من الوساطة في حرب غزة إلى تأمين الحدود الجنوبية ومكافحة التنظيمات الإرهابية.

4 مليارات يورو.. دعم أم استثمار؟

من بين مخرجات القمة، جاء الإعلان عن حزمة دعم مالي تبلغ 4 مليارات يورو تُقدم لمصر في إطار تعزيز الاقتصاد والاستقرار المالي.

وهنا يبرز السؤال الذي تتداوله الأوساط الإعلامية والسياسية: هل هي منحة دعم تقدّمها أوروبا لمصر؟ أم استثمار استراتيجي تضمن به أوروبا استقرار شريكها الجنوبي؟

الواقع أن القاهرة لم تتعامل مع الحزمة من موقع المتلقي، بل من موقع الشريك. فالبيان المصري أشار بوضوح إلى أن التمويلات ستُوجّه إلى مشروعات الطاقة النظيفة، وتوسيع مشروعات الهيدروجين الأخضر، والبنية التحتية، وهي قطاعات تخدم الجانبين معًا.

ولعلّ ما يميز هذا الاتفاق الذي فتح بابًا لتعاون اقتصادي يضمن مصالح متبادلة، أنه جاء بعد عامٍ من المفاوضات الفنية التي أدارتها الحكومة المصرية بهدوء ودقّة، لتضمن ألا تُحمَّل الشراكة بأي شروط تمسّ السيادة الوطنية.

الإعلام بين الصورة والتحليل

في الوقت الذي تناولت فيه بعض وسائل الإعلام الأوروبية الحدث من زاوية “المساعدات مقابل التعاون”، حيث ركّزت في تغطيتها على أن الحزم المالية التي تُقدّمها أوروبا لمصر ليست مجرد “مساعدات إنسانية” فحسب، بل تُعد جزءًا من صفقة تعاون استراتيجية: مثلًا، تقرير “The Brussels Times” الذي أشار إلى قرض بمليارات استعدادًا لفرص تجارية، أما ““The National فقد ربطت التمويل بتعزيز العلاقات الاقتصادية، ومقال Heinrich Böll Stiftung لطّف الصورة قائلًا إن الهدف هو تشجيع أجندة الإصلاح ومواجهة الهجرة، كل هذه التغطيات تؤكد أن الإعلام الأوروبي يرى العلاقة على أنها تعاون مبادَل أكثر من كونه دعمًا بلا مقابل.

فيما تعاملت وسائل الإعلام المصرية معه من زاوية مختلفة تمامًا، فبدل أن تُركّز على المبالغ والأرقام، سلطت الضوء على الاعتراف الدولي بمكانة مصر ودورها الإقليمي، وهو ما يعكس وعيًا إعلاميًا بضرورة إدارة الصورة الذهنية عن الدولة في الخارج.

لكن يظل التحدي الأكبر أمام الإعلام المصري هو الانتقال من نقل الخبر إلى تحليل الحدث.

فقمة بهذا الحجم لا يمكن اختزالها في بيانات رسمية فقط، بل تحتاج إلى تناول معمّق يشرح للرأي العام لماذا تحتاج أوروبا إلى مصر أكثر مما تحتاج مصر إليها حاليًا؟

فالتحولات الجيوسياسية في شرق المتوسط، والأزمات المتلاحقة في ملف الهجرة والطاقة، جعلت من القاهرة مركز توازن حقيقي، وهو ما تدركه العواصم الأوروبية جيدًا.

دور مصر في معادلة الأمن الإقليمي

القمة لم تقتصر على الاقتصاد، ففي كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي، أكد أن “مصر ستظل تعمل من أجل أمن واستقرار المنطقة، انطلاقًا من مسؤوليتها التاريخية تجاه محيطها العربي والإفريقي”.

جملة تختصر عقيدة السياسة المصرية في السنوات الأخيرة، حيث إنها دولة لا تنعزل عن قضايا الإقليم، ولا تسمح للفوضى أن تقترب من حدودها، في الواقع أن الدور المصري في ملف غزة، والوساطة بين الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية، وكذلك في ملف الهجرة من الساحل الإفريقي، جعل الاتحاد الأوروبي يدرك أن استقرار مصر هو شرط أساسي لاستقرار البحر المتوسط بأكمله.

ومن هنا جاءت فكرة “الشراكة الاستراتيجية”، ليس كمجرد عنوان دبلوماسي، بل كمبدأ سياسي جديد يحكم العلاقة بين القاهرة وأوروبا في العقد القادم.

مصر الجديدة.. وثقة متبادلة

وتميز الخطاب الأوروبي هذه المرة بالابتعاد عن لغة “المطالب والإملاءات” التي كانت تميّز الخطاب الأوروبي في ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان خلال العقد الماضي.. وهنا أيضًا يشار للخطوات الاستباقية للدولة، حين وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكومة في 30 سبتمبر إلى إعداد استراتيجية وطنية لحقوق الانسان ودمجها في جميع الخطط والبرامج الوطنية للدولة، ليعلن قبل قمة بروكسل أنه يضع الإنسان في قلب السياسة لا في هامشها.

والآن أصبح الحديث عن “ثقة متبادلة” و“تفاهم على المصالح المشتركة”، وهي إشارات تُحسب للدبلوماسية المصرية التي نجحت في تحويل لغة الحوار إلى لغة شراكة لا وصاية.

ويذكر أن هذا التحوّل لم يأتِ صدفة، بل هو امتداد لسلسلة تحركات مدروسة — من مؤتمر “رؤية مصر 2030” إلى اتفاقيات منتدى غاز شرق المتوسط، ثم الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي أطلقتها القاهرة عام 2021، وكلها رسائل واضحة بأن مصر تتحرك برؤية متكاملة تجمع بين الإصلاح الداخلي والانفتاح الخارجي.

 شراكة بثمن العزّة

قمة بروكسل لم تكن مجرد حدث عابر في رزنامة العلاقات المصرية – الأوروبية، بل كانت إعلانًا عن مرحلة جديدة، تُدرك فيها أوروبا أن القاهرة لم تعد دولة تُدار بالأزمات، بل شريكًا يُبنى عليه الاستقرار الإقليمي.

ومع كل ما تحمله الاتفاقيات من تفاصيل اقتصادية وسياسية، يبقى الأهم هو الحفاظ على استقلال القرار الوطني، وأن تظل الشراكة قائمة على الندية لا على التبعية.

فمصر، بتاريخها وثقلها وموقعها، لم ولن تكون ورقة في يد أحد، بل تظل كما كانت دائمًا.. دولةً تصنع الأحداث، لا تنتظر أن تُصنع لها. 

تابع مواقعنا