المحطة القادمة الديك والفرخة
كانت الشمس تميل بهدوء فوق الأفق حين انطلقنا في رحلة علمية من واحة الفرافرة إلى الواحات البحرية، نسير في سرب من السيارات يشق طريقه عبر صحراء ممتدة لا يسمع فيها إلا صوت الرياح وهدير المحركات.
كان الطريق الأسود الأسفلتي يشق قلب الرمال الصفراء كجرح طويل في جسد الصحراء، يمتد أمامنا مستقيما حتى يبتلعه الأفق.
على الجانبين كانت الرمال تتبدل مع كل هبة ريح، والسماء صافية كأنها معلقة فوق عالم لا يسكنه سوانا.
امتدت الرحلة في صمت طويل، لا يقطعه سوى همسات الأجهزة وأحاديث الأصدقاء المتقطعة.
وفجأة اخترق السكون صوت المرشد عبر اللاسلكي، يقول بنغمة مرحة وصوت يشوبه الضحك استعدوا يا جماعة المحطة القادمة الديك والفرخة.
ضحكنا بدت العبارة غريبة وساخرة وسط هذا الصمت الأبدي.
ظننا أنه يمزح أو يحاول كسر رتابة الطريق الطويل، لكن تلك الكلمات التي بدت في البداية مجرد نكتة كانت مفتاح الدهشة التي تنتظرنا، فما إن انحرفت السيارات عن الطريق الرئيسي، ودلفنا إلى عمق الصحراء، حتى بدأ المشهد يتحول أمام أعيننا.
اختفى لون الرمال الأصفر شيئا فشيئا وتسلل إلى المكان بياض غريب، ناصع كأن الأرض غمرها الثلج.
كانت الرمال تتبدل ملامحها، والضوء يزداد نقاء، حتى شعرنا أننا نعبر من عالم إلى آخر.
توقفت السيارات وعم الصمت.
خرجنا جميعا نتأمل في ذهول هذا المشهد الذي لا يشبه شيئا رأيناه من قبل صخور بيضاء ضخمة تنتصب كأنها منحوتات أسطورية، تتخذ أشكالا مذهلة؛ ديك يرفع رأسه بفخر، وفرخة تحتمي بجانبه، وفطر عملاق، وجمل، وطائر يمد جناحيه.
في تلك اللحظة، أدركنا أن المرشد لم يكن يسخر بل كان يمهد لنا لقاء مع الجمال النادر.
لكن وراء هذا الجمال حكاية علمية أعجب من الخيال فالصحراء البيضاء ليست سحرا بلا سبب، بل نتاج ملايين السنين من التحول والتشكل.
فقبل نحو ثمانين مليون سنة، كانت هذه الأرض مغمورة بمياه بحر عظيم لتتراكم رواسب الحجر الجيري والطباشير الغنية ببقايا الكائنات البحرية ثم انحسر البحر وجاءت الرياح أقدم نحات في التاريخ تنحت وتشكل تلك المنحوتات الطبيعية البديعة التي تقف اليوم تحمل بصمة عصور غابرة وذاكرة لبحر اندثر وجمالا
يتغير لونه على مدار اليوم ففي الصباح، يشع المكان بياضا دافئا وعند الغروب، تتحول الصخور إلى ألوان وردية ذهبية كأنها تحترق بنور الشمس الأخيرة.
أما في الليل، وتحت ضوء القمر، فيتحول كل شيء إلى بحر من الفضة، والنجوم تبدو أقرب مما تكون عليه في أي مكان آخر.
لذلك لم يكن غريبا أن تعلن الحكومة المصرية الصحراء البيضاء محمية طبيعية عام 2002، لتكون شاهدا على عبقرية الخلق وثراء الجيولوجيا المصرية.
فهنا يجتمع العلم بالجمال إنها محمية للحجر والروح معا.
في نهاية الرحلة، وقفنا أمام صخرتين شهيرتين تشبهان الديك والفرخة حقا عندها ابتسم المرشد وقال: ها هي المحطة التي وعدتكم بها.
ضحكنا، لكن الضحكة هذه المرة كانت ممتزجة بدهشة واحترام لقد بدأنا الرحلة بعقل الباحث وانتهينا بقلب المتأمل.
غادرنا المكان، والبياض يتلاشى خلفنا في المرايا ;لنتعلم أن الطبيعة ليست صامتة بل تتكلم بلغة من حجر وصمت عميق وأن العلم أحيانا لا يكتمل إلا إذا مر على القلب.


