الجمعة 05 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

حصاد النية

الجمعة 24/أكتوبر/2025 - 06:52 م

بتيجي علينا لحظات بمواقف معينة سواء شخصية أو بتسمع عنها أو حتى بتقراها وبتجبرك تقف عندها عشان تتأمل الحكمة من وراها، لكن وبشوية تركيز هتكتشف إن معظم المواقف دي بتثبت كذا حقيقة مافيهومش خلاف، حقيقة إن مفيش إنسان خلقه ربنا مالوش قيمة ولا شايل رسالة، حقيقة إن مفيش إنسان ينفع تحكم عليه إلا من خلال أفعاله وبس، حقيقة إن المحبة دي بتاعت ربنا ومش من حق أي مخلوق إنه يصنف أو يقول رأيه في علاقة حب جمعت اتنين تانيين، من المواقف اللي بقف عندها هي قصة المحاسبة المصرية دينا نادر شتا، بس قبل قصة دينا خليني أقول لكم إن كان فيه مطربة عظيمة اسمها سعاد محمد ليها أغنية عظيمة زمان بتقول: (مين السبب في الحب القلب ولا العين؟).

الحقيقة إن سعاد، وطول كوبليهات الأغنية ومدتها اللي تجاوزت 4 دقايق، ماقدمتش إجابة صريحة وسابت الموضوع معلّق لحد اللحظة دي، فيه ناس اجتهدت ودخّلت خيار ثالث في المعادلة، اللي هو "العقل"، وبرضه فضلت الإجابة غايبة، ومحدش جاب حل وافي شافي حاسم بس اللي ما اتقالش في الأغنية إن الإيد كمان ممكن تكون سبب في الحب!

المواطن الأمريكي "لوكا ميرفي" من الأمريكان أصحاب البشرة السمراء، "لوكا" اتولد بكف الإيد اليمين من غير صوابع، الكف عبارة عن قبضة بس، مع الوقت بقى ناسي إعاقته وبقى بيتعامل عادي، يمكن ساعد في كده كمان إن أغلب الناس برّه في حالها ومحدش بيتطفل على حد. كمّل تعليمه واشتغل مهندس، كان متعود يلبس قميص كاروهات أحمر كمامه طويلة. هو كان عنده هدوم كتير، بس أغلب لبسه كان القميص ده بالذات، لدرجة إنه جاب منه 17 قميص نفس الشكل واللون والمقاس عشان يبدّل بينهم. ليه؟ عشان الموديل ده بالذات، باللون ده بالذات، كمامه طويلة ومدلدلة بتوصل لبعد كف الإيد بشوية كمان، فيقدر يدارى وراها كف إيده وما يحسّش بحرج. آه، كان بيبقى شكله هلهوطة في نفسه، بس فل يعني.
متعرفش من سوء حظه ولا حُسنه، جه مصر عشان يشتغل هنا في أواخر التسعينات في مشروع إنشائي كانت بتشرف عليه الشركة اللي هو فيها، سكن في شقة في الزمالك، ومن العِشرة مع الناس اتعلم اللغة العربية، وتحديدًا العامية، بقى يعرف يقول: ياض، وقشطة، وشغال، ومسا مسا. اندماج المهندس "لوكا" في المجتمع المصري بسهولة ساهم فيه كمان ملامح وشه الهادية، ولون بشرته السمراء المحببة للنفوس، وضحكته اللذيذة. ثقته بنفسه في شغله مافيهاش كلام، خصوصًا إنه كان متميز فيه فعلًا.

وهو رايح الشغل في يوم، كانت جاية في الجهة المقابلة ليه على نفس الرصيف بنوتة في أوائل العشرينات، فيه موتوسيكل جه من وراها بسرعة وخطف شنطتها، وكمل جاري في اتجاه لوكا، طبعًا بالنسباله الموقف المصري الأصيل ده كان غريب عليه، وماشفش زيه في حياته، وإن إزاي ده أصلًا يحصل في عز زحمة الشارع المتكربس ناس! دون وعي ولا تفكير، ولا إراديًا، أول ما الموتوسيكل جه قصاده وعدّى من جنبه، نط "لوكا" بجسمه الضخم كله فوقه هو واللي سايقه عشان يجبره يقف.

 طبعًا وقع عليه وبطّطه، والموتوسيكل لف بيهم هما الاتنين شوية كويسين، كان من نتيجتهم جروح وكدمات في الإيد والرجل والوش، اتقبض على الحرامي، و"لوكا" اتعالج شوية في المستشفى وخرج منها، وإيده الشمال متغطية بكوم من الشاش بسبب إصابة الوقعة..

كده بقى "لوكا" إيده اليمين في وضعها الأساسي اللي اتولد بيه، وإيده الشمال كمان بقت في الوضع الجديد! إحساس صعب بالعجز والضعف، بس لوحد بشخصيته كان الموضوع مختلف. تأقلم عليه وقال: كلها أسبوعين تلاتة ويفك الرباط، بس ده ما منعهوش من نزول الشغل تاني يوم مباشرة.. البنت اللي حصل معاها الموقف ده، واللي ماقابلتش "لوكا" بعد الحادثة، كانت الآنسة "دينا نادر شتا"، 24 سنة، خريجة كلية تجارة إنجليزي، وظروف شغلها خلتها موجودة في نفس المكان اللي حصل فيه الموقف، واللي برضه كان قريب من مقر الشركة اللي بيشتغل فيها "لوكا"..

بعد أسبوع من الحادثة، وأثناء ما "لوكا" كان مروّح بيته، قابل اتنين عيال سرسجية صيع، هربانين من المدرسة بتاعتهم. قابلهم في شارع هادي متفرع من شوارع الزمالك، وماكانش فيه غيرهم هما التلاتة. خبط في واحد فيهم غصب عنه، وبدأت حفلة قلة الأدب منهم: (مش تفتح يا سمارة؟ إنت رايح الخرطوم؟ أسمر يا أسمراني!) العيال استلموه تريقة ومسخرة بسبب لون بشرته، وبسبب دلدلة قميصه وإيده الشمال المربوطة، وإعاقة إيده اليمين. "لوكا" حاول يتفاداهم ويعمل نفسه مش واخد باله منهم. بدأ يسرّع في خطواته عشان يبعد عنهم، وبدأت حبات العرق تغطي وشه. 

الفكرة إن "لوكا" قوي وعال العال طول ما الموضوع بعيد عن إيده، بس تو ما يحس إن حد مركز معاها، كان بيتحول لأضعف خلق الله من الكسوف والخجل، من كتر التوتر، بدأت خطواته السريعة تتحول لِجري، كأنه عمل ذنب! مش ده الغريب، لكن الأغرب إن العيال طلعوا يجروا وراه، كأنهم بيطاردوا حرامي مثلًا! يدخل في شارع ويخرج من التاني، وهما وراه. كأن العيال عجبهم فكرة إن فيه واحد شحط بالضخامة دي وخايف منهم، فقالوا نعمل عليه نمرة.

لحد ما اتزنق في حتة في آخر الشارع مافيهاش مخرج، وكان مافيش أي بديل عن الاشتباك. "لوكا" لزق ضهره أكتر في الحيطة بتاعت المبنى اللي سادد الشارع. بمنتهى السماجة قربوا منه، وفجأة شباك شقة الدور الأرضي اللي "لوكا" لازق ضهره فيه اتفتح نص فتحة، وطلعت منه بنوتة في أوائل العشرينات وقالت: (إيه ده؟ فيه إيه؟!) الولدين شافوها، تنحوا، وبعدها استجمعوا بجاحتهم تاني، وبدأوا يلقحوا عليها كلام. البنت — واللي ماكنتش حد غير "دينا" — فهمت بسرعة الموقف، وقالت لهم بمنتهى الهدوء: (بقولك إيه، إنت وهو، ماتقصروا الشر وتتكلوا على الله؟) كلامها اتقابل منهم بتريقة زيادة. فتحت الشباك فتحة كاملة ونطّت على الأرض منه! واحد من العيال جاب ورا وحب يعمل شبح وقال لها: (وإنتي مالك؟ تعرفيه منين؟! هي البنات دلوقتي اللي بقت تحوش عن الرجالة؟!) بعد كام ثانية من الضحك السمج، الولد التاني بص لـ "لوكا" وقال لـ "دينا": (ولا هو البغل ده معندوش إيد ومايعرفش يتعامل لوحده؟!) "دينا" فهمت من بصة الولد إنه قصده يتريق على إعاقة "لوكا". من غير تفكير، رفعت إيدها، وشاورت عليها، وصرخت بصوت عالي: (ليه؟ وهي راحت فين يا روح أمك؟!) قالت الجملة ونزلت بكف إيدها على وش الولد التاني، وقبل ما الأولاني يفوق، كانت ضربته برجْلها بين رجليه، فوقع على الأرض. في لحظة، الاتنين لملموا بعضهم وخلعوا بأقصى سرعة، في معركة لو كانت كملت كانت هتنتهي أكيد بموت واحد فيهم بسبب اللي شافوه من شراسة البنت دي!..

لما خرجوا من الشارع، بصّت "دينا" لـ "لوكا"، ومدت إيدها وقالت له وهي بتهز كتفها وبتحاول تبتسم: (ماكنتش أتمنى تاني مقابلة بينا تكون بمشكلة برضه، بس أنا بعتذرلك وبشكرك على موقفك معايا الأسبوع اللي فات). "لوكا" مد إيده اليمين بتردد، بس استمرار "دينا" في مدّ إيدها شجعه إنه يمد إيده ويسلم عليها ويشكرها. سألتها إزاي قدرت تضربهم بسهولة كده؟ ردّت إنها كانت بطلة النادي في التايكوندو، اتعرفوا على بعض، وقعدوا في كافيه، المقابلة العابرة بقت عادة متكررة. شوية بشوية، ماتفهمش تدابير النصيب لعبت دورها إزاي، والحب بنى جسر بين القلبين. اتجوزوا..

اللذيذ في الموضوع إن "دينا"، ولحد قبل الخطوبة مباشرة، كانت فاهمة إن "لوكا" مواطن أفريقي أو سوداني، وماكنتش تعرف إنه أمريكاني خالص. عاشوا حياة سعيدة، لكن حتى بعد الجواز فضلت حتة خجل جوا "لوكا" بسبب موضوع إيده.

لما "دينا" بقت حامل، بيحكي "لوكا" إنه كان شايل هم اليوم اللي هي هتولد فيه، مش بسبب الولادة نفسها، لكن بسبب اللحظة اللي هيبص فيها على جسم المولود، اللي أكيد — أكيد — هيورث كف إيده منه! لحظة مرعبة، ودعاء ليل نهار إنه مش عايز يخلّي ابنه يشوف اللي هو شافه.

ولدت "دينا"، وفي لحظة الولادة كان "لوكا" مستخبي زي العيال، ولازق ضهره في حيطة الطرقة اللي في آخرها غرفة العمليات، وصدره طالع نازل وصوت تنفسه مسموع لأي حد بيعدي من جنبه من التوتر والقلق. حتى لما جه الدكتور وحط إيده على كتفه وخرّجه من حالة السرحان دي، وقال له: مبروك، وطلب منه يروح يشوف ابنه، ماكنتش رجليه شايلاه. لما وصل قدام غرفة العمليات، فتح الباب بالراحة وهو متردد. عارف إنت لما تكون بتتفرج على فيلم رعب فتغمض عينك وتفتحها بالراحة شوية بشوية عشان ماتشوفش المنظر مرة واحدة — قال يعني بتمهّد للخضة؟ أهو، هو عمل كده بالضبط. فتح عينه وهو قدام السرير بالضبط، شال الطفل وبص على إيده لقاها سليمة. شاور لـ "دينا" على إيد ابنه من غير ما يتكلم، والسعادة هتنط من عينه. "دينا" اللي كانت لسه فايقة، مسكت كف إيده اليمين، وقربتها منها، وباستها، وسندت خدها عليها.

حتى بعد ميلاد ابنهم "آدم"، فضلت حياتهم الأسرية في منتهى الجمال. في أول أجازة صيف بعد ميلاد "آدم"، قرر "لوكا" ياخد مراته وابنه ويسافر بيهم أمريكا يغيّروا جو. سافروا فعلًا، وقضّوا هناك أسبوع في "كاليفورنيا"K وهما راجعين من حمام السباحة في مرة، لقوا مبنى ضخم عبارة عن 6 أدوار بيتحرق. المبنى — وبحكم عيشة "لوكا" في المنطقة — كان عارف إنه مبنى فيه حضانة أطفال ومول صغير.. من غير تفكير، نزل من العربية هو و"دينا" اللي شايلة "آدم"، وبدأوا يقربوا من المبنى. سمعوا كلام الناس الملمومين حوالين المكان إن فيه أطفال جوه ومش عارفين يخرجوا. المبنى كله تم إخلاؤه، ماعدا الدور اللي فيه الأطفال.

من غير تردد، تحرك "لوكا" ناحية المكان، وبدأ يتسلّق الطوب البارز في جدار المبنى عشان يوصل للدور التالت اللي فيه الأطفال. حركته شجعت اتنين تانيين من الواقفين يعملوا زيه. كده بقى فيه تلاتة جوه الدور التالت. في نفس اللحظة وصلت عربية المطافي، ومدّوا سلّم في اتجاه الشباك بتاع الدور. بدأ التلاتة اللي جوه يناولوا الأطفال لضابط المطافي، طفل ورا التاني. شوية ونزل واحد من الاتنين المتطوعين، شوية كمان ونزل التاني. الظابط سأل: كده كام طفل تم إنقاذهم؟ 13 طفل من إجمال 14، يعني لسه باقي طفل + "لوكا". بدأت أجزاء من المبنى تنهار تحت ضغط النار، وبدأ الناس يبعدوا. شوية، فيه راس طفل ظهرت، وكأن حد بيزقه لبرّه وبيدلدل راسه. الظابط قرّب تاني بالسلم، ومسك الطفل من راسه بالعافية، وفي نفس اللحظة انهار سقف الدور التالت! و"لوكا"؟ ماخرجش!..

الحادثة كان من ضحاياها 23 شخصا ما بين ستات ورجالة من اللي كانوا في المول، لكن الأطفال كلهم تم إنقاذهم. لما سألوا الطفل اللي تم إنقاذه في الآخر عن شكل الراجل اللي أنقذه، كانت إجابته اللي زودت حيرة المحققين إنه ماخدش باله من شكله خالص بسبب الدخان: (لم أنتبه إلى شكله نهائيًا). قبل ما يكمل كلامه، اترسمت علامات الخيبة على وشوش المحققين: اللي إداله ضهره، واللي نفخ بعصبية، واللي حط وشه بين كفوف إيده، وبعدها بص للسقف في يأس. الولد كمل جملته بسرعة: (لم أنتبه إلى شكله نهائيًا، لكن عندما احتضنني ودفن رأسي داخل ذراعه ليحمي أنفاسي من الدخان، لمحت لون كُم قميصه). انتبه الخمسة محققين تاني، وحبسوا أنفاسهم، ومعاهم "دينا" اللي كانت حاضرة المقابلة وهي كاتمة دموعها. لحد ما الولد ختم الجملة وقال: (كان يرتدي قميص كاروهات لونه أحمر!). مات "لوكا" بعد ما ضحى بحياته من غير تفكير عشان غيره. مات وهو بيثبت حديث رسول الله ﷺ: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم).

فيه ناس بتعيش تدور على سبب للحب، وعلى مبرر للعطاء، وعلى لحظة تثبت فيها لنفسها إنها تستحق الحياة.. شرارة تقول لهم يالا أعملوا كذا!.. بس اللي فعلًا فهم الدنيا صح مش هيعيش يحسب كل خطوة بالورقة والقلم ولا عمره هيسأل ليه بيحب ولا ليه بيضحي، لإنه عارف إن القلب النضيف بيعمل الصح حتى لو الدنيا كلها ماشية عكسه.. البطولة مش دايمًا في القوة، ولا التضحية دايمًا محتاجة شهود.. أوقات كتير البطولة الحقيقية بتكون في القلب اللي بيختار يكمّل رغم الخسارة، ويحب رغم الخوف، ويدي رغم الوجع.. في عالم بقى كله حسابات ومنطق، لسه فيه قلوب بتتصرف بفطرتها، وبتدافع، وبتسامح، وبتحمي من غير ما تسأل "هستفيد إيه؟".. الإنسان السوي مش بجسمه ولا هيئته ولا مستواه الاجتماعي.. لكن بالنية اللي بتحركه، وبالخير اللي بيزرعه حتى لو مش هيشوف حصاده.

تابع مواقعنا