فتح بين القاهرة ورام الله.. لحظة مراجعة لا لحظة انسحاب
لم يكن امتناع حركة فتح عن تلبية دعوة القاهرة للمشاركة في الحوار الفلسطيني اعتراضًا على مشاركة تيار “فتح المؤتمر السابع” المرتبط بالقيادي محمد دحلان، سوى انعكاسٍ لحالة مأزومة داخل الحركة، أكثر مما هو تعبير عن موقفٍ سياسي من مبادرة بحدّ ذاتها، فالذين قرأوا المشهد في ظاهره كخلافٍ حول قوائم المدعوين أو الأسماء المشاركة، تجاهلوا أن المسألة في جوهرها تتعلق بعمق التحوّل الذي يعيشه المشروع الوطني الفلسطيني نفسه، وبالارتباك الذي أصاب مركز القرار في رام الله منذ حرب غزة.
فالقاهرة، التي تتحرك اليوم بوصفها نقطة التقاء الضرورات الإقليمية والإرادة الوطنية الفلسطينية، كانت تدرك أن لحظة ما بعد الحرب لا تحتمل ترف الانقسام، لذلك فتحت أبوابها أمام جميع الأطياف بلا استثناء، مدركةً أن أي تسوية قادمة، أو إعادة بناء للنظام السياسي الفلسطيني، لا يمكن أن تُبنى على الإقصاء أو على ثنائية الغالب والمغلوب.
لكن رفض فتح الحضور بدا كأنه محاولة لتثبيت صورة ماضوية عن السلطة الفلسطينية بوصفها الممثل الأوحد، في وقتٍ تغيّر فيه ميزان الفعل والمشروعية على الأرض، فتيار “فتح المؤتمر السابع” المرتبط بالقيادي محمد دحلان، والذي شارك في معارك الدفاع عن غزة بعد السابع من أكتوبر، أصبح جزءًا من معادلةٍ سياسية وميدانية يصعب تجاوزها، خصوصًا بعدما دفع رجاله ثمنًا باهظًا خلال الحرب.
في المقابل، يسعى الرئيس محمود عباس إلى إعادة إنتاج السلطة عبر إعادة ترتيب بيتها الداخلي وتثبيت رموزه التقليديين، بتعيين حسين الشيخ نائبًا له في محاولة لبعث الحياة في مؤسسة فقدت حيويتها السياسية وشعبيتها الميدانية، غير أن هذا المسعى، مهما كانت دوافعه، يبدو منفصلًا عن الواقع المتغير، إذ يتجه المزاج العربي والدولي إلى دعم صيغة فلسطينية جديدة تتسم بالتعدد والشراكة، لا بالاحتكار والانفراد.
ومن هنا، فإن السؤال الحقيقي لم يعد: لماذا غابت فتح عن القاهرة؟ بل: هل تملك الحركة القدرة على أن تكون جزءًا من الإجماع الوطني الجديد الذي بدأت ملامحه تتشكل؟ فالقاهرة، التي استطاعت من قبل أن تُقنع واشنطن بضرورة إشراك الرئيس الفلسطيني في قمة شرم الشيخ – ولو مقابل قبول حضور نتنياهو – تُدرك اليوم أن بناء الإجماع الفلسطيني لا يمكن أن يقوم على رموز الماضي وحدهم، بل على رؤيةٍ مستقبلية توازن بين الواقعية السياسية وضرورات الوحدة الوطنية.
في هذا السياق، تبدو الأزمة الراهنة اختبارًا لطبيعة التحول داخل فتح نفسها: هل تستطيع الحركة أن تتجاوز منطقها التقليدي وتعيد تعريف دورها في المشهد الفلسطيني، أم أنها ستبقى أسيرة مرحلةٍ انتهت؟.
الإجابة عن هذا السؤال لن تحدد فقط مستقبل السلطة، بل ستُسهم أيضًا في رسم ملامح التوازن العربي الجديد في ما بعد حرب غزة، حيث تسعى القاهرة، بثباتها المعهود، إلى تثبيت معادلة واقعية تحفظ للفلسطينيين وحدتهم، وللعرب صوتهم، وللقضية مسارها الذي لا يُختزل في فصيلٍ أو زعيم.


