ميثاق النساء.. فخّ الكتابة عن الدروز
قبل عدة سنوات كان مُسمّى المجتمع الدرزي أو طائفة الدروز مسمى غائمًا على الأذهان لا يحمل الكثير من الدلالات ولا نعرف عنه الكثير سوى بعض الأخبار الغامضة أيضًا على شاشات الأخبار، فأمّا أن نقرأ رواية أدبية تدين بعض المعتقدات الدرزية مثل التقمُّص أو تناسخ الأرواح وعدم إمكانيّة رجوع الزوجين مرّة أخرى بعد الطلاق، ويتم تداول الرواية على نطاق عربي واسع لهو أمر شديد الجرأة والمغامرة.
أنهيتُ للتوّ رواية "ميثاق النساء" للكاتبة اللبنانية حنين الصايغ، التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية لهذا العام، ويمكنني هنا أن أقول بوضوح إن الجرأة المجتمعيّة والسياسيّة لهذه الرواية لا تنبع فقط من قدرتها على وضع المجتمع الدرزي على طاولة التشريح والانتقاد، لكن الجرأة الأكبر تكمن في مخاطرة الكاتبة حنين الصايغ لتعريض ذاتها الحقيقية لظنون التناصّ بين واقعها وواقع "أمل بو نمر" بطلة الرواية بما في حياة أمل من تمرُّد وتخلٍّ وهروب يُعرِّض سيرتها وسيرة أسرتها للقيل والقال.
والدروز كما تؤكد بطلة الرواية "سلسلة" مجتمع صغير يعرف بعضه بعضًا، تغامر حنين الصايغ هذه المغامرة وهي ربيبة المجتمع العربي وتدرك جيدًا رغبة رجاله قبل نسائه لإعادة المروّيات بشكل يَضْمَن لهم جلد المرأة المنسلخة من محيطهم بما يخيف الأخريات من تكرار المحاولة.
تسرد حنين الصايغ حكاية "أمل بو نمر" الفتاة الطموحة المتمرّدة على تقاليد وأعراف عائلتها الدرزية، فتتقدّم للدراسة في الجامعة الأمريكية سرًا دون علم زوجها أو والدها، بهذه الافتتاحية المرتبكة - كحياة البطلة أمل بو نمر- تبدأ حنين الحكاية ثم تتنقّل بين الماضي والحاضر كأنها طفلة تلعب بالطوب وتقفز على قدمٍ واحدة محاولة عدم السقوط.
في البداية تسخر "أمل بو نمر" من الجملة المعتادة التي يرددها الدروز دائمًا بمناسبة وبدون مناسبة مؤكدين على أنهم/ الدروز سلسلة، لأنهم لا يتزوجون من خارج الطائفة وبالتالي كلُّهم أقارب وأولاد عمومة، هذا بخلاف اعتقادهم الإيماني في "التقمُّص/ تناسخ الأرواح" أي أن الدرزي حين يموت تحلّ روحه في مولود جديد يبدأ حياة جديدة، والصالحون منهم يتذكّرون حيواتهم السابقة لكنهم نادرًا ما يعترفون بذلك، وعلى هذا عاشت الجدّة -جدّة أمل بو نمر- ما تبقّى من حياتها تنتظر الجسد الجديد الذي حلّت فيه روح ابنها المتوفّى "عماد" حتى إنها ظلّت تحسب سنوات عمره الجديد بعد موته وولادته الجديدة، أصبح طفلًا صغيرًا عمره الآن عام، أصبح عمره عامين، ستة أعوام، وظلّت تحسب عمره بيقين مَن تنتظر شابًا راشدًا يقبل عليها وهي جالسة أمام الدار يرتمي في أحضانها ويخبرها بأنه هو ابنها في حياته السابقة، وربما يجد الشيخ الكبير فتاة في ريعان شبابها تقبل عليه وعيونها ممتلئة بالدموع وتخبره بأنه أمّه التي ماتت من سنواتٍ كُثُر.
ربما تختلف التفاصيل، لكن وضع المرأة الدرزية التي وصفتها حنين الصايغ في روايتها لا يختلف كثيرًا عن وضع كثير من النساء في المجتمعات العربية، خاصة في القرى والمحافظات التي تبعد عن العواصم، حتى وإن بدت المرأة في بعض تلك المجتمعات تتمتّع بأشكال مختلفة من الحريّات، فما زالت النساء في بعض نجوع ومراكز صعيد مصر على سبيل المثال تُحرم من الميراث، تُزوَّج رغمًا عنها، تُطلَّق رغمًا عنها، تساوَم على ممتلكاتها، وكما حدث لـ أمل بو نمر قد لا تملك فتاة الصعيد الحرية الكاملة لاختيار تعليمها أو الحد الأقصى الذي تطمح/ تصلُ إليه في ذلك التعليم، هذا مما أعرفه أنا بصفة شخصية من معاناة قرينات لي في المجتمع الصعيدي المصري الذي يعد منغلقًا بنسبة أقل من ذي قبل بالتأكيد لكنه مازال منغلقًا نوعًا ما.
لفتني في أكثر من منعطف سردي داخل الرواية أن التغيُّرات التي طرأت على بعض الشخوص هي تغيرات مفاجئة وغير متوقّعة، فالأب الذي كان تشدده محلّ خوف وترقُّب من الزوجة والبنات أصبحت شخصيته مختلفة في النهاية "بدون أسباب" والأخت المتحررة فكريًا قويّة الشخصية التي تحصل في الغالب على ما تريد أخذت حياتها منعطفًا جديدًا وأصبحت أكثر تشددًا من ذي قبل رغم انخلاعها من البيئة المغذيّة لهذا التشدد، وهذا في رأيي إن وَشَى بشيء إنما يشي باعتقاد حنين الصايغ نفسها -سواء اعتقاد واعي أو غير واعي- بأن الإحاطة بالتطورات الفكرية والعقائدية للأفراد المنتمين للمجتمع الدرزي هو أمر غير مضمون، وأنها وإن بذلت كل ما في وسعها لتحليل وفهم ومن ثَمَّ الحديث عن هذا المجتمع المنغلق لكنها في النهاية تجد أنها ما زالت بعيدة عن الإدراك الكامل لما قد يفعله هذا الانغلاق الفكري من تغيرات مفاجئة ربما تكوّنت على مهل تحت سطح الوعي المباشر.
تمتدّ الإسقاطات الاجتماعية لهذه الرواية لتكتسب أبعادًا جديدة وشروحًا أعمق مع كل قراءة جديدة من امرأة تنتمي لمجتمع ذي ضوابط معينة تحكم الانتماء إليه والولادة بداخل أسواره. فـ"ميثاق النساء" الذي ربط بطلات الرواية ببعضهنّ البعض بحيث تستمد كل منهنّ المشاركة والحماية من الأخريات؛ هذا الميثاق يمتدّ أفقيًا ليحتوي كل امرأة عربية تعدّ ابنة لمجتمع منغلق -خاصة على معتقدات دينيّة- ورأسيًا بعُمق التجذُّر الثقافي لموروثات هذا المجتمع وتحريكها لواقع النساء فيه، والاقتتال الذي تمارسه المرأة الدرزيّة للخروج من الشرنقة والحصول على أجنحة قويّة هو ممارسة متكررة تلقّنها كل امرأة عربيّة لابنتها كما تلقّنها أبعاد جسدها وأهمية حماية حدوده.


