الجمعة 05 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

فانس يرفع شعار أمريكا أولًا في مواجهة إسرائيل

الخميس 30/أكتوبر/2025 - 09:00 م

تأتي تصريحات نائب الرئيس الأمريكي جاي دي فانس في سياق سياسي بالغ الدلالة داخل الخطاب الترامبي المتجدد، إذ تعيد صياغة العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ضمن مشروع أيديولوجي أوسع هو لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى MAGA، الذي يتجاوز كونه شعارًا انتخابيًا إلى كونه بنية فكرية جديدة لإعادة تعريف الهوية والمصلحة الأمريكية في عالم ما بعد الهيمنة الليبرالية.

أولًا: الدلالة السياسية — من التبعية الرمزية إلى الاستقلال السيادي

حين يقول فانس إن السلام في غزة تحقق بفضل ضغط الرئيس على إسرائيل، فهو لا يصف حدثًا دبلوماسيًا فحسب، بل يؤكد مبدأ استعادة مركز القرار الأميركي في مواجهة ما يعتبره نفوذًا خارجيًا على السياسة الأمريكية.. هذا الخطاب، الذي كان قبل سنوات من المحرّمات في الوسط الجمهوري المحافظ، يعكس تحوّلًا نوعيًا في الوعي القومي الأمريكي: من رؤية إسرائيل بوصفها حليفًا مقدسًا إلى اعتبارها شريكًا خاضعًا لشروط المصلحة الأمريكية.

تصريحات فانس — إسرائيل ليست تابعة لنا ونحن لا نريد دولة تابعة — تحمل في جوهرها نفيًا مزدوجًا: فهي تنفي أن تكون إسرائيل أداة أمريكية، لكنها في الوقت نفسه تنفي أن تكون واشنطن رهينة للّوبي الإسرائيلي.. هذا الخطاب يفتح الباب أمام فكّ الارتباط الرمزي الذي طالما جمع بين اليمين الأمريكي الديني واليمين الصهيوني في سردية التحالف الإلهي، ليحلّ محلّه خطاب السيادة الوطنية كمرجعية نهائية.

ثانيًا: البنية الأيديولوجية — أمريكا أولًا كعقيدة مضادة للعولمة وللوبيات

ينتمي فانس إلى الجيل الجديد من الجمهوريين الذين نشأوا في ظل الأزمة الاقتصادية والقطيعة بين أمريكا العميقة والنخب الساحلية، لذلك فإن تبنيه لشعار أمريكا أولًا لا يعني الانعزال فحسب، بل تحرير القرار القومي من المراكز غير المنتخبة — سواء كانت مؤسسات دولية أو جماعات ضغط داخلية أو حتى تحالفات خارجية تقليدية مثل إسرائيل.

هذا المنظور يعيد صياغة السياسة الخارجية على قاعدة التقاطع في المصالح لا التحالف في القيم، وهي قاعدة تتحدى المنظومة الليبرالية التي حكمت السياسة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، والتي جعلت من إسرائيل امتدادًا دائمًا للنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط.. فانس هنا يعبّر عن قومية عملية ترى أن التحالف مع إسرائيل لا يجب أن يكون التزامًا أيديولوجيًا دائمًا، بل صفقة مؤقتة تُقاس بمنطق المنفعة.

ثالثًا: التحولات الداخلية في الوعي الأمريكي تجاه إسرائيل

تنعكس تصريحات فانس أيضًا على تحول أعمق في الرأي العام الأمريكي، خصوصًا بين الأجيال الجديدة داخل الحزب الجمهوري، فمع تصاعد الخطاب الشعبوي والانعزالي، بدأ دعم إسرائيل يتراجع كـ إجماع مقدس وأصبح خاضعًا لمراجعة قومية–أخلاقية: هل تخدم إسرائيل فعلًا المصالح الأمريكية؟

هذا التحول يرتبط أيضًا بتراجع الهيمنة الثقافية للإنجيليين البيض، وصعود التيار القومي الاقتصادي داخل الحركة اليمينية، ومن هنا، فإن حديث فانس عن بناء علاقات مع قطر وتركيا رغم اعتراضات اللوبي الإسرائيلي يعبّر عن انقلاب في البوصلة الاستراتيجية: من التحالفات العقائدية إلى البراغماتية الجيوسياسية.

رابعًا: ترامب وفانس — من المظلّة الشعبوية إلى إعادة بناء النظام الدولي

يمكن قراءة تصريحات فانس بوصفها تطويرًا منطقيًا لمشروع ترامب نفسه، لا قطيعة معه. فمبدأ الضغط على الحلفاء الذي استخدمه ترامب مع الناتو وأوروبا يُطبّق الآن على إسرائيل، الغاية ليست قطع العلاقة، بل إعادة تراتبيتها: واشنطن في القمة، والبقية شركاء ضمن مصلحة أمريكية محددة.

بهذا المعنى، يُعيد فانس إنتاج الترامبية في صيغة ما بعد 2020: قومية غير معادية لإسرائيل لكنها غير خاضعة لها، تضع الكرامة الوطنية الأمريكية في مواجهة فكرة التحالف المقدس، وتُعيد تعريف النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط من خلال الصفقة لا العقيدة، والمصلحة لا الهوية.

خامسًا: البعد الرمزي — مواجهة القداسة السياسية لإسرائيل

في الخطاب السياسي الأمريكي الحديث، كانت إسرائيل تمثل رمزًا مقدسًا في الوعي القومي المحافظ، تُستخدم بوصفها مقياسًا للولاء الوطني والإيماني. فانس، بخطابه الجديد، يزعزع هذه القداسة، ويحوّل إسرائيل من رمز ديني–سياسي إلى فاعل دولي يمكن الضغط عليه ومراجعته.

وهذا التحول لا يُقرأ فقط في ضوء النزاع حول غزة، بل كعلامة على تفكك الإجماع الرمزي الذي حكم العلاقة الأمريكية–الإسرائيلية لعقود، والذي بدأ يتصدع داخل الحزب الجمهوري نفسه.

وختاما، فإن تصريحات جاي دي فانس ليست مجرد مداخلة في الجدل حول غزة، بل تمثل لحظة انعطاف في الوعي السياسي الأمريكي المحافظ: من تحالف ديني–عاطفي مع إسرائيل إلى علاقة مصالح قائمة على القوة والسيادة.

إنها بداية تبلور ما يمكن تسميته بـ الترامبية الثانية — قومية أمريكية لا تتورع عن مواجهة اللوبي الإسرائيلي تحت شعار أمريكا أولًا، معتبرة أن العظمة لا تُستعاد إلا حين تعود واشنطن مركزًا للقرار، لا تابعًا لأي قداسة خارج حدودها.

تابع مواقعنا