د.مصطفى سليم يكتب: طه حسين ومحمود شاكر.. خصومة في حفل صاخب
ما إنْ شرعتُ في إعادة النظر ومراجعة نصوص الخصومة التي دارت بين طه حسين ومحمود شاكر، وجدتُ في الكثير منها اختزالًا مخلًا لبعض التأويلات لما دار بينهما، وتوجيهًا على غير الوجه الصحيح الذي كانت عليه لما اكتسبته الأجيال، بل والجيل المعاصر لها من الثرثرة التي تنشر أحيانًا في بعض الصحف والمجلات، وفقما أوضح شاكر نفسه، بعدما توقفت أمامها الذهنية العربية عند حد خصومة معركة المتنبي التي جرت بينهما عام 1936 دون النظر إلى ما سواها في العلاقة بينهما حتى بعد رحيل طه، (المتنبي: 8، وجمهرة المقالات: 1096 وما بعدها).
ثرثرة الصحف والمجلات التي أشار إليها شاكر هي التي جعلت شهرة الخلاف بين الرائدين الجليلين تتوقف عند جذوره الأولى، دون النظر إلى جوهره بما تضمّنه من علاقة مركبة بينهما وبما اشتملت عليه من ودّ إنساني بالغ المدى، وخلاف في الرأي لا حدّ له، وهو ما نسعى لكشف تفاصيله هنا.
سنوات القَلق
لعل التطرق إلى لمحة تاريخية على المُناخ العام الذي نشأ فيه العلّامة شاكر تفتح أفق الحكاية على ما كان لفكره وقلمه من دويّ على وجوه الصحف؛ جعل من شخصه مرجعية ثقافية جليلة، ومن داره مركزًا معرفيًا تخرّجت فيها أجيال متعاقبة من الأساتذة والباحثين المصريين والعرب، ومن مجلسه ملتقى لجميع الآراء والمذاهب الفكرية، وحلقةً علميةً بين الأدباء والشعراء على تنوع فنونهم، فماذا كان يدور في الأفق آنذاك؟
اتسمت سنوات وحقب القرن العشرين بالاضطراب والقلق إثر أحداث مهّدت لها في القرن التاسع عشر، وأخرى جرت خلال سنواته، تمثلت في توسع الاستعمار الأوروبي بالشرق والهيمنة السياسية على بلدانه، وعن هذا سجّل العلّامة شاكر في كتابه "المتنبي" قوله: "ومع أن هذا العمل السياسيّ المحض قد بدأ تنفيذه منذ زمن في أجزاء متفرقة من عالمنا العربي، فإنه بدأ في مصر مع الطلائع الأولى لعهد محمد علي عام 1805 بسيطرة القناصل الأوروبية عليه وعلى دولته، بالمشورة والتوجيه، ثم ارتفعت ذروتها في عهد حفيده إسماعيل حتى جاء عام 1882، وبمجيئه سيطر الإنجليز على كل مفاصل الدولة" (المتنبي: 20).
في سياق آخر، يزيدنا شاكر وضوحًا عما جرى في هذه المرحلة، فيذكر أنه في سبتمبر من عام 1882 احتلت بريطانيا الأراضي المصرية، وادّعت أنها جاءت لتوطد عرش الخديوي توفيق في مصر، وتطفئ فتنة الثورة العرابية كما يسمونها، وزعمت أن بقاءها لن يطول، لم تمضِ 5 أيام على دخولها البلاد حتى ألغت الجيش المصري بتسريح ضباطه وجنوده، ومزقت البحرية المصرية، ووضعت الشرطة تحت سيطرتها، طال أمد الخمسة أيام المعلنة إلى أكثر من سبعين عامًا حتى رحل آخر جندي بريطانيّ عن مصر عام 1956 (جمهرة المقالات: 916).
كان من تداعيات الاحتلال البريطاني إفساد الحياة السياسية، وسيادة الاضطراب الذي أسفر على سبيل المثال عن "تعاقب إحدى وأربعين وزارة في عهد الملكية خلال ما يقرب من إحدى وثلاثين سنة"، وفقما أورد الدكتور عبدالغفار حسن في كتابه "المساجلات الفكرية بين محمود شاكر ومعاصريه"، ما أدى بالطبع إلى استلاب قوة البلاد في الاقتصاد والفكر، وألقى بأعبائه على الحياة الاجتماعية، حسب شاكر، الذي أشار إلى أنه في مارس من عام 1897، جاء الدور على التعليم، وأوكل الاحتلال البريطانيّ ملف التعليم إلى المعلم والمبشر دوجلس دنلوب فوضع سياسة تعليمية عرفت بـ"نظام دنلوب" دمرت التعليم القومي في البلاد تمامًا، بعدما جعلت "اللغة الإنجليزية لغةً أولى، فيما أمست اللغة العربية تدّرس في غربة شديدة على نفوس الناشئة، وما كاد يطول بها الزمن حتى باتت غريبةً على أهلها" (أباطيل وأسمار: 449).
في عام 1908، أنشئت الجامعة المصرية وبالطبع كان المستشرقون أساتذةً فيها بما روّجه بعضهم من آراء غير دقيقة عن الأدب والتاريخ العربيين عَلقت بأذهان بعض تلامذتهم دون أن ينتبهوا آنذاك إلى عدم نزاهة بعضها عن الغرض، الذي كُشف عواره تحت وقع المعارك الأدبية الطاحنة آنذاك، بل ومن خلال ما قدمه منصفو المستشرقين أنفسهم.
على أية حال، استأصلت سياسة دنلوب اللغة العربية من ألسنة الطلاب المصريين، ومكّنت نظيرتها الإنجليزية من أذهانهم، فنشأ جيل "المدارس المفرّغ" من ثقافته وكان شاكر من بينهم، والذي وللمفارقة مع مسيرته الكبرى في الثقافة العربية الإسلامية يَذكر أنه لم يكن محبًا للغة العربية في صغره شأنه في هذا شأن أقرانه، بل كان رسوبه فيها سببًا في إعادة الشهادة الابتدائية رغم تفوقه في الرياضيات وسائر المواد الدراسية (أباطيل وأسمار: صـ446: 449)، كما كان هذا الرسوب سببًا لوقوفه على أسرار العربية وفاتحة خير له، ولها على يديه.
وخلال إعادته للسنة الرابعة (الشهادة الابتدائية آنذاك) راجع دروس العربية، وتردد على الجامع الأزهر، وسمع في ساحاته السِّجالات الشعرية ليشرع بعدها في قراءة ديوان المتنبي، وأمسى بعد ذلك وِردَه آناء الليل وأطراف النهار حتى حفظه آنذاك، لتعود الكلمة العربية إلى مكانها في نفسه بعدما نازعته نظيرتها الإنجليزية التي كان يتقن الحديث بها كأهلها لدرجة كان يقرأ شكسبير في لغته القديمة، كما ترجم بها في صدر شبابه قدرًا صالحًا من قصائد الشعراء، بينهم الإنجليز "أوسكار وايلد"، والأمريكي "أدون ماركهام"، بالإضافة إلى بعض المقالات لعدد من الكتّاب بينهم النمساوي "آرثر شنتزلر" وطاغور، وجميعها نشرت في مجلة المقتطف عام 1934، كما حرر مجلة "ريدز دايجست" وبذل جهدا هائلا في الترجمة أثنى عليه يحيى حقي (المساجلات الفكرية" صـ72 وما بعدها).
الجامعة وبداية الخلاف
عام 1925، آثر شاكر الالتحاق بكلية الآداب بتزكية من أستاذه طه لقناعته بجدارته وحفظه ديوان المتنبي والمعلقات العشر، بالإضافة إلى قراءته لكتاب الأغاني ومعجم لسان العرب كاملين، وهو ابن السابعة عشرة آنذاك، كما أنهما كانا قد تتلمذا في مراحل مختلفة من عمرهما على يد شيخ واحد، هو إمام العربية في زمانه الشيخ علي المرصفي، فبينما كان طه ينشر "حديث الأربعاء" في صحيفة السياسة، كان شاكر في المدارس الثانوية، وقبيل التحاقه بالجامعة كان قد انتهى من قراءة كتابين جليلين على شيخه، وشيخ طه؛ الأول "كتاب "رغبة الآمل" شرح الشيخ عَلى كتاب الكامل للمبرِّد، والثاني كتاب "أسرار الحماسة" وهو من شرح الشيخ أيضًا على كتاب "الحماسة" لأبي تمام، وفي حديث شاكر معه ذكر له ما يكتبه طه حسين في الصحف، وكان الشيخ لا يكاد يقرأ الصحف، فعرف يومئذ منه أن الدكتور طه قرأ عليه ما تيسر من كتاب الكامل للمبرد، فحفّزه ذلك على السعي للقاء طه وإلى السماع منه (المتنبي: 8، و9، جمهرة المقالات: 1044).
في صفوف كلية الآداب، بدأ الدكتور طه يلقي محاضراته التي عُرفت فيما بعد بكتاب "في الشعر الجاهلي"، ومحاضرة من بعد محاضرة، صُدم شاكر بعدما ترددت على مسامعه مرارًا آراء طه عن الشعر الجاهلي وحديثه عن أن "الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليًا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك في أن ما بقى من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدًّا، لا يمثل شيئًا ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي" (في الشعر الجاهلي: 7)، وآراء أخرى كثيرة قامت بسببها الدنيا ولم تقعد فيما بعد.
لم تكن آراء طه بجديدة على مسامع شاكر، فقد سبق وقرأ بعضها سلفًا لدى المستشرق ديفيد مرجليوث ولم يرَ فيها سوى "مسألة فارغة بذرتها ثرثرة ولا طائل من ورائها" (جمهرة المقالات: 1101)، إذ كان يرى أن مرجليوث "ليس عنده من أدوات النظر في العربية، وإدراك أسرارها، ما يجعل لرأيه قيمة، كما أن منهجه فاسد، ومردود عليه من بعض المستشرقين بينهم الأستاذ (ليال) الذي حقق (المفضليات) وكتب مقدمة وافية عن الشعر الجاهلي" (جمهرة المقالات: 1093 -1127).
من هنا لم تكن صدمة شاكر من أفكار طه بقدر علمه بأن ما يردده عن انتحال الشعر الجاهلي لم يكن بحسب وصفه أكثر من "حاشية" مبتكرة، وتعليق على متن مرجليوث دون أن يعلن مصدره، وهو ما عدّه شاكر سطوًا غير أخلاقي ليس له سوى مصطلح واحد قديم هو "السرقة الأدبية"، وهو حكم سحبه على جميع مجريات الحياة الأدبية من مسرح وقصة ونقد وتأليف، وجعله برهانًا على فسادها آثر معه الاعتزال على طريقته الخاصة. وإن اقتضت الأمانة هنا إلى أن حكم "السطو" هذا خضع للعديد من المراجعات النقدية، والاتفاق والاختلاف في شأنه، وهو ما لسنا بصدده هنا.
ورغم قناعة شاكر بما كان يعلمه علم اليقين، فإنه وقف مع أستاذه عند حد الهيبة والتأدب ولم يجرؤ على مواجهته بهذا آنذاك، وإن كان قد أعلن مآخذه عليه في غيبته، لكنها كانت تصل إلى مسامع طه، وذات محاضرة طلب شاكر من طه التعقيب، فأذن له، فوقف يردّ حديثه عن الشعر الجاهلي، ويشير إلى أن مذهب طه عن صحة نسب هذا الشعر للجاهلية أو نفيه قبل قراءة نصوصه قراءةً دقيقةً تعتمد على "التذوق الأدبيّ" عبث محض، فبدون هذا (التذوق) لن نتبين الفرق بين شعر الجاهلية وبين الشعر الأمويّ والعباسيّ، كما أن دراسته كما تدرّس نقوش الأمم البائدة واللغات الميتة لغو باطل (المتنبي: 7).
كما عارض منهج طه، الذي نسبه إلى ديكارت، وهو في رأي شاكر مخالف لما يقوله ديكارت نفسه، بل إن تطبيق طه لمنهج الشك بالأساس قائم على التسليم تسليمًا لم يداخله الشك بروايات في الكتب هي في ذاتها محفوفة به، فما كان من طه إلا أن نهره ليسود الصمت في قاعة المحاضرة ويَنفض زملاء شاكر من حوله بين غاضب ومستنكر. ومن يومها لم يكف شاكر في المحاضرات عن مناقشة أستاذه حول المنهج والشك بغير هيبة، ورغم هذا الخلاف الحاد الذي ظل لسنتين هما مدة دراسة شاكر بالجامعة قبل أن يغادرها فإن شاكر ذكر أنه لم ينقطع خلالهما عن زيارة طه في بيته (جمهرة المقالات: 1101 و1106).
شهادة للتاريخ
حتى ذلك الحين، ظلت مسألة الشك في الشعر الجاهلي داخل قاعات الدرس وبين الأساتذة، ولم تتجاوز أسوار الجامعة إلى أن أصدرها طه في كتاب لتتحول إلى قضية رأي عام وتنتهي بمصادرة الكتاب آنذاك، ويعيد طه نشره تحت عنوان "في الأدب الجاهلي" عام 1927، (محمود سلطان، الدين والتراث والهوية).
رغم أن شاكر لم يدخل على خط الكتائب التي هاجمت طه آنذاك، فإن كتمان طه مصدره رغم أن نقّاده تطرقوا إليه وسط صمت الجامعة وأساتذتها أسقط هيبة الأستاذية والجامعة في نظر شاكر سقوطًا منكرًا فغادرها، وأدار للجامعة ظهره، غير مبالٍ بإتمام دراسته، طالبًا العزلة حتى يستبين وجه الحق في "الشعر الجاهليّ" الذي ارتبط لديه بمسألة "إعجاز القرآن".
في مرحلة متأخرة من حياة شاكر، سجل شهادة عن طه وعن تلك الأيام جاء فيها، أن الدكتور طه حسين حين ألقى محاضراته "في الشعر الجاهلي"، زعم أن له منهجًا يدرس به تراث العرب كله وسمى هذا المذهب "مذهب الشك"، "فوضع علم المتقدمين كله موضع البحث والإنكار والجحود، وقلب العلم القديم رأسًا على عقب، والانتهاء إلى محو أكثر العلم القديم، وبطلان الشعر الجاهلي وهو عماد اللسان العربي كله بعد القرآن والحديث، كل ذلك أفزع القلوب التي كانت تحس وتسمع وترى وتقرأ ما يكتبه أعوان الاستعمار والتبشير يومئذ، فاختلط الأمر، وصار طه حسين عند عامة الناس واحدًا ممن يمثل هذا الاتجاه الذي يتولاه فلان وفلان من خبثاء المبشرين الذين يكتبون بالقلم العربي" (جمهرة المقالات: 1049 وما بعدها).
ليحسم المسألة بالقول: "لقد لقي طه يومئذ (1926) ما لقى، ونُسب إليه ما أقطع بأنه بريء منه، والدليل على براءته عندي هو أنه منذ عرفته، في عام 1924 إلى أن تُوفي في 28 أكتوبر 1973، كان محبًا للسانه العربي أشدّ الحب، حريصًا على سلامته أشدّ الحرص، متذوقًا لروائعه أحسن التذوق، فهو لم يكن يريد قطّ باللسان العربيّ شرًا، بل كان من أكبر المدافعين عنه، المنافحين عن تراثه كلّه إلى آخر حياته، ومحال أن يحشر، مَن هذه خصاله، في زمرة الخبثاء ذوي الأحقاد من ضعاف العقول والنفوس، الذين ظهروا في الحياة العربية لذلك العهد، بظهور سطوة (الاستعمار) وسطوة (التبشير) وهما صنوان لا يفترقان" (جمهرة المقالات: 1049).
وفي سياق آخر، نفى شاكر صراحة أن يكون بينه وبين طه خصومة إنسانية قط، وإن أكد أن الخلاف الحاد بينهما في المذهب والمنهج (جمهرة المقالات: 1128 وما بعدها).
العودة إلى الجذور
منذ عام 1928، عكف شاكر على قراءة تفسير القرآن وعلومه وكتب الحديث والبلاغة، وكلّ ما له صلة بالتراث العربي حتى تجلى له منهج "التذوق" الأدبي الذي كشف له خبايا التراث، والذي قال عنه، "شيئًا فشيئًا انفتح لي الباب على مصراعيه. فرأيتُ عجبًا من العجب، وعثرتُ يومئذ على فيض غزير من مساجلات صامتة خفية كالهمس، ومساجلات ناطقة جهيرة الصوت، غير أن جميعها إبانة صادقة عن الأنفس والعقول" (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا: 8).
وفي يناير من عام 1935، شرع طه في كتابة سلسلة مقالات؛ بعد تسع سنوات من صدور كتابه "في الشعر الجاهلي"، نشرت في صحيفة "الجهاد" وتضمنها الجزء الأول من كتابه "حديث الأربعاء"، وخلالها أعاد النظر في آرائه، وراجع موقفه من الشعر الجاهلي بعد أن لاحظ رفض بعض تلامذته لـ"القديم" من الشعر والأدب وإعراضهم عنه (المتنبي: 30-34).
ومما جاء فيها، وقد أدار مسائلها بينه وبين صاحبه الذي يحاوره بعدما عاد من أوروبا يحمل الدرجة الجامعية، ويرطن بإحدى اللغات الأجنبية، "ويَنتقص ويَستخف بالشعر القديم، ويرى أن زمنه قد انقضى، وأن الناس قد أظلهم عصر التجديد ويجب أن يترك الأدب القديم إلى الشيوخ الذين يتشدقون بالألفاظ، ويملأون أفواههم بالقاف والطاء وما أشبهها من الحروف الغلاظ". ليجيب طه على صاحبه بوصف أورد فيه: "هذا الشاب وأمثاله ضحية من ضحايا الحضارة الحديثة، لأنه لم يفهمْ ها على وجهها، ولو كان قد فهمها لعلم أنها لا تنكر القديم، ولا تنفّر منه، ولا تنصرف عنه، وإنما تحببه، وترغّب فيه وتحث عليه لأنها تقومً على أساس منه متين" (المتنبي: 30-34).
يخبر طه صاحبه في سياق آخر، "ليس التجديد في إماتة القديم، وإنما التجديد في إحيائه، وأخذ ما يصلح منه للبقاء لتذوقه والانتفاع به في إقامة الحياة الجديدة على أساس متين"، وقد عقب شاكر على سلسة المقالات هذه بالقول، "إن طه صارحه بأنه رجع عن أقواله في الشعر الجاهلي"، وإنْ أخذ شاكر عليه أنه لم يكتب شيئًا صريحًا يتبرأ به مما قال وكتب، فقد كانت عادة الأساتذة الكبار يخـطئون في العلن ويتبرأون من خطئهم في السر" (المتنبي: 31).
"طبقات فحول الشعراء" فتوحات معرفية
مرت السنوات، واعتزل شاكر تأليف الكتب حتى حين، وسخّر جهوده نحو تحقيق عيون التراث وكان من بينها كتاب "طبقات فحول الشعراء" لصاحبه الإخباريّ والمؤرخ ابن سلام الجمحي الذي عاش في القرن الثالث للهجرة وإليه، وإلى كتابه "الطبقات" استند الطاعنون في صحة الشعر الجاهلي ليكشف تحقيق شاكر اللغز الذي نقل مسألة الشك من القرن التاسع الميلادي إلى القرن العشرين ويحسم المعركة بعدما أبان عن أسلوب وصنيع كتّاب هذا الزمان في التأليف، وهو ما لم يشذ عنه ابن سلام الذي عمل على تأليفه فيما كان يسابق الأيام وسط علته وهو في التسعين من عمره، وأدى هذا التسرع إلى خطأ في عبارة اضطربت معها بنية الكتاب، وأدت إلى الخطأ الذي تناقلته الأجيال من بعده حتى وصلت المروية إلى القرن العشرين وأثارت ما أثارت من ضجة كان ظاهرها فتنةً آنذاك، وإن كشفت الأيام والسنون عن جوهرها الذي كان فاتحة خير في تاريخ الثقافة العربية القديمة والحديثة بما تركته مدونتها من معارك فكرية حولها أنارت الطريق إلى الأجيال من بعدها، (محمود شاكر: قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام).

مهما يكن الحال، فقد أنهت مسألة الشك الشعر الجاهلي علاقة شاكر بالجامعة، وخلقت بينه وبين أستاذه طه خصومة حادة في المنهج والأصول، وإن ظل الود الإنساني بينهما، وفقما مر بنا، كما صرفت همّ شاكر إلى طلب اليقين فيها لنفسه لما لها من تداعيات تمسّ جوهر اللغة والثقافة العربية، وأسفرت عن منجزه في "إعجاز القرآن" وغيره من التحقيقات التي أسهمت في إحياء وإثراء الثقافة العربية القديمة والحديثة، وفيما كان شاكر منصرفًا بكل كيانه وحواسه تجاه قضية الشعر الجاهلي، فإن ثمة خصومةً حادةً كانت تتشكل في الأفق بينه وبين طه حول المتنبي بحلول عام 1936، وهي مسألة شقت دروبًا متنوعة، ودار في شأنها العديد من المراجعات، قد نتطرق إليه ذات مرة.










