أزمة الثقة في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.. صراع الروايات بين قيادة جيش الاحتلال والسلطة حول 7 أكتوبر
الجدل الدائر في صفوف الجيش الإسرائيلي بشأن تقرير ترجمان الخاص بتقييم إخفاقات يوم السابع من أكتوبر، والتسريبات الإعلامية المصاحبة له، يكشفان عن تصدّع داخلي عميق في بنية المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
أزمة الثقة في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.. صراع الروايات بين قيادة جيش الاحتلال والسلطة حول 7 أكتوبر
ما يحدث داخل جيش الاحتلال لا يمكن النظر إليه كمجرد انتقاد ميداني، بل كجزء من صراع متعدّد المستويات بين القيادة العسكرية السابقة والحالية، وبين المؤسسة العسكرية والمستوى السياسي، في محاولة لإعادة صياغة الرواية حول أسباب الفشل وتحديد المسؤولين عنه.
من الزاوية الإعلامية، توقيت التسريب وطريقة إخراجه يوحيان بعملية موجّهة تهدف إلى التأثير في الوعي العام قبل نشر التقرير الرسمي. لم يصدر التسريب عن جهات خارجية، بل من داخل المؤسسة نفسها، ما يجعله أداة في معركة السيطرة على السرد.
استخدام عبارات رمزية مثل النصر يحبّ التحضير يضفي بُعدًا دراميًا مقصودًا يجعل الخطأ العسكري يبدو خيانة للمهنية العسكرية، ويحوّله إلى قضية أخلاقية في نظر الرأي العام.
الصحف التي نشرت هذه المعلومات، مثل يديعوت أحرونوت وynet، تُعد منابر مركزية في تشكيل الرأي العام الإسرائيلي، وهو ما يمنح التسريبات وزنًا يتجاوز بعدها العسكري لتصبح أداة ضغط سياسي ونفسي في آن واحد.
في البعد العسكري، تتبدّى أزمة بنيوية في منظومة الإعداد للقتال في الجبهة الجنوبية. غياب الخطط العملياتية الواضحة، واستبدال كفاءات المدفعية بعناصر من سلاح الجو، يشيران إلى خلل في فهم طبيعة القتال في بيئة حضرية مكتظة مثل غزة. الاعتماد المفرط على التكنولوجيا والاستخبارات دون ترجمتها إلى خطط ميدانية واقعية، أدى إلى فجوة بين القدرات النظرية والاستعداد التنفيذي.
أزمة الثقة في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية
هذا القصور لا يُقاس فقط بفشل المفاجأة التكتيكية، بل يُعبّر عن خلل أعمق في الثقافة التنظيمية، حيث تغلب الثقة التقنية على التفكير العملياتي الكلاسيكي. الاتهامات المتبادلة بين الضباط تعكس أيضًا صراعًا بين جيل ميداني خاض المواجهات البرية، وجيل مؤسسي اعتمد على المراقبة والاستخبارات كبديل عن التحضير القتالي الفعلي.
استراتيجيًا، تكشف الأزمة عن خلل في مفهوم الردع الإسرائيلي ذاته. السياسات التي اتُّبعت خلال العقد الأخير تجاه حركة حماس، القائمة على الاحتواء بدل الحسم، ولّدت شعورًا زائفًا بالأمان وأدت إلى تآكل تدريجي في الجاهزية للطوارئ. ما يُنتقد اليوم ليس خطأ ظرفيًا فحسب، بل نهجًا استراتيجيًا كاملًا اعتمد على إدارة الأزمات لا منعها. ولهذا فإن الجدل داخل الجيش يعكس خلافًا حول جوهر العقيدة العسكرية الإسرائيلية في التعامل مع غزة: هل ينبغي العودة إلى مبدأ الحسم أم الاستمرار في سياسة الاحتواء بحسابات أكثر حذرًا؟
سياسيًا، يتصل ما يجري بالأزمة العامة في بنية الحكم الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر. إلغاء صلاحية لجنة ترجمان في التوصية بالإقالات يعكس توجهًا سياسيًا لحصر الأضرار ومنع تداعيات مباشرة على القيادة العليا. في المقابل، تسعى القيادة العسكرية الحالية إلى استعادة الثقة عبر خطاب الانفتاح والمساءلة، من خلال تشجيع النقاشات الداخلية حتى وإن تسرّب بعضها للإعلام.. هذا التوازن بين محاسبة محدودة وحماية البنية القيادية يعبّر عن محاولة لإعادة ترميم تماسك المؤسسة الدفاعية دون تحويل التحقيق إلى أزمة قيادة شاملة.
من زاوية استراتيجية–إعلامية، يخدم التسريب هدفين متناقضين في آن واحد: فهو يفضح ضعف التحضير ويكشف غياب الخطط، لكنه في الوقت نفسه يبرز قدرة المؤسسة على ممارسة النقد الذاتي والانفتاح أمام الرأي العام، ومع ذلك، فإن الإفراط في هذا النمط من التسريبات قد يضعف صورة الجيش كجهاز منضبط ويعمّق الانطباع الشعبي بوجود انقسام وفقدان بوصلة؛ لذلك تتعامل القيادة العليا بحذر في إدارة تدفّق المعلومات، مدركةً أن توازنها الداخلي مرتبط بثقة الجمهور، وأن أي انكشاف مفرط قد ينعكس سلبًا على شرعية قراراتها العملياتية والسياسية.
في المحصلة، ما يجري يمثل تجسيدًا لأزمة ثقة داخلية مركّبة تتقاطع فيها الأبعاد الإعلامية والسياسية والعسكرية، الصراع الدائر حول المسؤولية عن الإخفاق لا يتعلق بالماضي فقط، بل يمتد إلى سؤال شرعية القيادة في المستقبل.
التسريبات، رغم ما تكشفه من إخفاقات في الإعداد والقيادة، تعبّر في الوقت ذاته عن محاولة واعية لإعادة هندسة صورة الجيش الإسرائيلي عبر خطاب النقد الذاتي الموجّه، في غياب رؤية استراتيجية واضحة تعيد تعريف العلاقة بين المؤسسة العسكرية والمستوى السياسي، وبين العقيدة العملياتية والمجتمع الإسرائيلي الذي لم يعد يتقبل التبريرات بعد صدمة السابع من أكتوبر.




