مرحبا دولة.. أن تقتل طائفية شعب برصاصة ضاحكة
في ضاحية لبنانية خيالية اسمها رفّ الحمام اشتعلت الفتنة بين سكانها وانتشر العنف، يختبئ الشيخ والقسيس في بيت الرب/الكنيسة، وداخل غرفة الاعتراف يسأل القسيسُ الشيخ:
- معقول نِحنا السبب؟
- إنت كنت عم بتعلم جماعتك إنه يكرهوا الإسلام؟
- والعياذ بالله شو هالحكي شيخنا؟ ولا مرة. (ينظر للكاميرا مباشرة)
- لكن شو هايدي النظرة الفوقية على الإسلام؟
- عشان الإسلام كمان منين إجو بها النظرية إنه بدُّن يخلصوا من المسيحيين
- لا أرجوك.. هايدا منو الإسلام الحقيقي هايدا اخترعوه.. عملوه ليعملوه سلاح حرب.. ما بدُّن يوسخوا إيديهن هني.. بيوسخوا إيدين الآخرين

في مسلسل مرحبا دولة – الذي قُدم على جزئين – أبطال العمل هم أفراد فصيلة شرطة، ودائما ما تفشل هذه الفصيلة في تحقيق مهامها بطريقة ساخرة، وإن نجحت، فيكون ذلك عن طريق الصدفة البحتة.
كون أبطال العمل يؤدون دور أفراد في الشرطة اللبنانية جعل الكثيرين يعتقدون أن السخرية والنقد في هذا المسلسل موجهان في المقام الأول إلى الشرطة، أو بمعنى أدق، إلى نظام السياسة اللبنانية، وهذا واضح من التيمة الرئيسية للحبكة، لكن جوهر رسالة هذا المسلسل ونقده وسخريته اللاذعة تضرب في صميم الطائفية الموجودة في لبنان.
المسلسل من إخراج محمد الدايخ صاحب شخصية "الريّس عاطف"، ويشاركه في التمثيل حسين قاووق بدور "بدري"، وكذلك شقيقه حسين دايخ "زهير"، وشيرين الحاج "عبير"، ومحمد عبدو "فاروق"، ومهدي دايخ "بيضون"، وذو الفقار ياسين (مرزوق).
مرحبا دولة أشبه بصرخة في وجه الطائفية المتغلغلة داخل المجتمع اللبناني، ويقدم المسلسل صرخته تلك إلى جميع الطوائف والطبقات اللبنانية دون تمييز، فهو يسخر من الطائفية داخل المجتمع المسيحي والإسلامي على حد سواء.
في الموسم الثاني من المسلسل، يستدعي قائد السرية "الريّس عاطف" أفراد الفصيلة في مهمة جديدة، عندما يجتمعون يخبرهم الريّس بطبيعة المهمة (يوجد ضاحية لبنانية "خيالية" اسمها رفّ الحمام يُقال إن بها وحدة وطنية ودور الفصيلة هو تفكيك هذه الوحدة)، مع تواتر الأحداث خلال هذه المهمة الساخرة، نكتشف الانفصام الذي يصبغ سكان تلك الضاحية.

ضاحية رف الحمام
تعتقد في البداية أن ضاحية رف الحمام ضاحية هادئة خالية من الخطاب الطائفي يعيش فيها المسيحي مع المسلم – على عكس العادة – جنبا إلى جنب في سلام، لكن نكتشف – للمفارقة – أن السلام في ضاحية رف الحمام كان ظاهريا فقط، بينما يضمر سكانها الطائفية في نفوسهم.
في أحد المشاهد الساخرة يمر شاب من أمام المخفر/قسم الشرطة، وتصيبه رصاصة مجهولة المصدر فيسقط قتيلا، يخرج أفراد الفصيلة ليروا المنظر أمامهم، ويأتي والد الشاب المسيحي صارخا، ودون أن يعرف حتى مَن قتله يشتبك على الفور مع صديق نجله المسلم ظنا أنه هو القاتل لمجرد أنه صاحب دين آخر.
يقدم المسلسل في هذا المشهد أفراد الفصيلة كشخصيات هشة غير قادرة على اتخاذ القرارات أو حتى فرض الأمن المنوط بهم، ويقفون كمتفرجين على الاشتباك الدائر بين المسلم والمسيحي ينتظرون أن ينتهي الأمر فقط، وعندما يفشل المسيحي في قتل المسلم يقوم "الريس عاطف" بإطلاق النار على صديق القتيل بنفسه، ويبرر ذلك بأنه يريد أن يصنع توازنا طائفيا.
هذه الكوميديا العبثية على قدر ما تنتقد هشاشة وضعف المنظومة الأمنية لكنها في حقيقة الأمر تسخر من الطائفية وكيفية تعاطي سكان ضاحية رف الحمام/الشعب بها، نعم كوميديا.. ولكنها سوداوية ومريرة، ترسم الضحك كما يرسم البلياتشو الحزين ابتسامةً حمراء كبيرة على وجهه.
عندما تندلع فتنة طائفية في رفّ الحمّام تتكشف أمامنا لقطات صارخة: من مشهد الشيخ والقسّيس إلى الفصيلة التي تلتجئ وتتحصّن بالمخفر وتغلق أبوابها، كأن الخطر لا يطالها. وأبشع ما في المشهد أن الغارق الحقيقي في وحل الطائفية هو الشعب نفسه، الذي حملها مكتومة في صدره حتى صارت تنتظر شرارة الانفجار.
يعتمد المسلسل كلّ التكتيكات المتاحة لطرح قضية خطيرة كالطائفية. أولا، يلجأ إلى الإطار الكوميدي كغطاءٍ ذكيّ يخفف من حدة الحساسية التي تثيرها المعالجة المباشرة، ويمنع العمل من الانزلاق إلى تنظيرٍ سياسي أو اجتماعي جامد؛ إذ إن لغة الكوميديا الساحرة لديها قدرة فطرية على النفاذ إلى القلوب بلا حواجز. ثانيا، المسلسل من أكثر الأعمال التي رأيتها تكسر «الجدار الرابع» ببراعة؛ فالممثلون كثيرًا ما يواجهون الكاميرا بنظراتٍ مباشرة تخاطب المشاهد: «أليس هذا ما يحدث؟ إنّه واقعنا»، وهذا هو جوهر المسلسل تماما.
مرحبا دولة قرر أن يطلق رصاصة ضاحكة صوب صدر الطائفية اللبنانية، مجسِّدا ذلك بلغة هزلية عبثية ساخرة. اختار صناعُ العمل أن يخوضوا المعركة بأدواتهم الخاصة، ورغم ضراوة الحرب فإنهم نجحوا في جعل الفن سلاحًا قاتلا للجهل والتعصّب. لذلك لا أبالغ إن قلت: مرحبا دولة أهم عمل درامي عربي خلال العقد الماضي على الأقل.


