الأخلاق ليس ما تفعله تحت الرقابة
الأخلاق ليس ما تفعله وأنت مراقب بل ما تفعله وأنت حر تماما.. اقتبست هذه الافتتاحية من إيمانويل كانط في كتاباته عن ميتافيزيقا الأخلاق.. ثم وجدتني أنظر حولي لأرى ذلك العالم الذي تزاحمنا فيه المواقف وتغالبنا فيه الأفكار وتميع معه الحدود ويختلف الناس حول أبسط الكلمات التي يرددونها ليل نهار، عن مفهوم كلمة الأخلاق داخل مجتمعات ترى أن الله يراها ويحاسبها على أفعالها، ثم وجهت تساؤلا لرجل بسيط اعتدت المرور عليه وأنا في طريقي للعمل؛ عم محمد ممكن أسألك حاجة وتجاوبني؟ الرجل رد تفضلا أسألي؟ قلت له يعنى ايه أخلاق؟ تجهم وجهه وعاد بظهره إلى الخلف.. هو حصل حاجة ضايقت حضرتك؟ رددت بابتسامة أردت من خلالها طمأنته أن الأمر دردشة أردت من خلالها سماع رأيه.
رد بعد صمت ثوان.. الأخلاق إننا ما نقلش من حد ولا نطعن حد في عرضه بالباطل، وإننا يبقى عندنا جدعنة كده لو حد احتاج لنا في حاجة، وندخل البيوت زي ما نخرج منها لا سمعنا ولا شوفنا.
قلت له ولماذا تفعل ذلك؟ رد ببساطة لأن ده الصح وده اللي تربينا عليه.. شكرته كثيرا على فلسفته العميقة التي اختصرت الكثير من الكلام؛ في المساء كنت أتناقش مع صديق متدين هادئ الطبع ووجهت له نفس السؤال؛ ماذا تعنى الأخلاق عندك؟ رد الصديق باتزان وثقة؛ الأخلاق هي ألا أعصي الله في أمر أفعله أبدا.. سألته وما الذى يجعلك تفعل ذلك كان رده لأني أخاف الله وأتمنى رضاه وأخشى عقابه.
زارتني صديقة جميلة الطبع محبوبة كثيرا لأنها هادئة متعاونة، تعامل الجميع برفق، وقلت لها ما هي الأخلاق؛ ردت وهى تنظر إلى عيني مباشرة؛ ألا نخون ثقة من نحب وألا نطعن في شرف الآخرين أو نسيء لكرامتهم.. سألت أم محمود السيدة التي ترملت وترعى أطفالها اليتامى؛ ما هي الأخلاق؟ في البداية سكتت.. أعدت السؤال بطريقة أخرى إزاي تقولي على حد إنه إنسان عنده أخلاق؟ ردت ببساطة يراعي الغلابة ويحس بيهم وما يتهمش ست في شرفها أبدا.
سألت وسألت والجميع أخبرني كيف يرى معنى كلمة الأخلاق، الأخلاق دائما هي منطقة الأمان لكل شخص في الحياة، المنطقة التي يتحقق فيها أمانه هو وفق ضوابط عالمه هو ببساطة.. عندما نتحدث عن معنى متجرد فإننا ربما نتجاهل البيئة التي تحيط بالعقل البشرى والتي تفرض ذاتها على الإنسان، تفرض مفهوم خاص قاصر لا يمكن تعميمه.. تفرض مخاوف وآمال، تفرض للأخلاق ثوبا في بعض الثقافات، وأحيانا تفترض وجود رادع خارجي قوي للسلوك الشخصي، تفرض أحيانا تداخلا بين الشخصي والعام، تفترض أن الإنسان الجيد هو الذي يظهر لنا دلالات مادية يمكننا القياس عليها.
هل منظومة الأخلاق هل ذاتها السلوك؟ أم أن السلوك أحد مظاهر الخلق، ولكن لا يقاس عليها الخلق؟
لتقريب الفكرة، الصدق خلق أم سلوك؟ أم أن ممارسة الصدق تجعله يتحول من خلق لسلوك؟
هو رجل صادق.. كيف رأيت ذلك من خلال سلوكه؟ لا يخفى ربما مشاعره الحقيقية، عندما يحب يخلص لحبيبه، عندما يعمل يتقن عمله، عندما يؤخذ رأيه في أمر لا ينظر إلى منفعة ولا مصلحة بل يقول ما يخالج نفسه وما يعتقد فيه فعلا.
إذن هل يبدو الصدق مجرد كلمات تقول من خلالها الحقيقة؟ أي حقيقة؟ ما تعتقد فيه حقا أم ما تظن أنه صحيح هكذا؟
هل الرادع الاجتماعي هو ما يحكم سلوك الشخص، أم أنه مدفوع بفعل الصواب لأنه صواب؟
النوايا.. مرعبة هذه الكلمة كونها منطقة مجهولة، تشبه الثقوب السوداء التي تبتلع كل شيء.. ولا نعلم عنها شيئًا.. النوايا هي التي تجعل من قيمة كالصدق، طعنة لا قيمة.. هي التي تجعل الرادع الاجتماعي يحول هذا المجتمع من مجتمع ظاهره البحث عن إقامة القيمة إلى مجرد مجتمع منافق هش قابل للسقوط.
لقد اختصرت الأخلاق كلها في الصدق هنا، المجتمع الذي يعلى قيمة الصدق مجتمع ناجح.. ما مدى صحة هذه العبارة وما علاقة كلمة النوايا بالأخلاق؟
يمكنني أن أجد مقياسا للصدق في درجة إتقان العمل، تحري دقة الأخبار مثلا عن طريق الاعتماد على مصادر صحيحة، الاستماع لطرفي الرواية ومراجعة مصادرهم، من الشفافية وقت اتخاذ القرارات… إلخ، كلها ممارسات تشير إلى إعلاء قيمة الصدق.
عندما تتدخل المنطقة المظلمة هنا، منطقة النوايا، نبدأ في تبرير الكذب بدعوى سوء النوايا، كأن نقبل بنصف رواية لأننا افترضنا أن الطرف الآخر كذا وكذا.. هنا لم نلتزم بممارسة تعلي قيمة الصدق، ولكن تدخلت النوايا لتحجم الصدق.
الثوب الذي وضعته بعض المجتمعات للاستدلال على الصدق، الثوب المادي أقصد وليس الممارسة، كأن أعتقد أن الشخص الذى يمارس طقسا دينيا معينا شخص صادق، والشخص الذي يمارس طقسا مخالف لدين معين هو شخص غير صادق، هنا يكون المجتمع قد ألبس القيمة ثوبا، رغم أن القيمة، قيمة الصدق مجردة لا يمكن الاستدلال عليها إذا ما خضعت للمتغير من عادات وثقافات وديانات البشر، مفترض أن القيمة تعلو الجميع ويمكن أن يمارسها الجميع.. هل يمكن وضع فرضية أن الصدق مقتصر على دين، بلد، لبس، سلالة، عرق؟ القيمة لا تخضع للاختلاف، ولكن البشر حاولوا صبغ القيمة وهي الصدق بطبيعتهم المختلفة في التفضيلات، وبدلا من تحري القيمة سعوا لتحري ثوبها الذي ألبسوها إياه.
فصار الصدق حليف الواعظ، رجل الدين، ممثل الأيدلوجية، الكاتب الذي أؤمن بفكره، حليفا للثوب الطويل، والثوب الأبيض، وأرض المعبد، إن كنت أذهب للمعبد، وهكذا، فصارت القيمة، قيمة الصدق الذي بتحريه اتصف الإنسان بخلق الصدق، صار لصيقا بالثوب الخارجي، وصار الثوب الخارجي بوصلة الذين يريدون التخلق بخلق الصدق، باتباعهم الثوب لا تحري الصدق في الفعل والقول.
يأتي الرادع القانوني والاجتماعي لهؤلاء الذين يخالفون هذه القيمة، مخالفا للهدف من وجوده أصلا وهو تحرى الصدق، وأصبح بالتالي الصادق هو الذي يتم وصمه واتهامه وسلب حريته في النهاية، ما يدفع المجتمع كله للتخبط.
لتقريب الفكرة، الشرف صورة من صور الصدق تتفرغ عنه، الإنسان الصادق إنسان شريف، فما معنى الشرف؟
في بعض المجتمعات البدائية، تم إلباس الشرف كأحد صور الصدق، دماء غشاء البكارة، نزف ليلة الزفاف.. أصبح المجتمع الذى يتحرى الصدق كهدف قيمي، ينتظر دماء البكارة للبنت، الحلقة الأضعف في سلسة الشرف، لا أحد يتحرى بكارة الذكر، وعندما لا تنزف الصغيرة، تذبح لأنها لم تكن شريفة، لأنها لم تكن صادقة.
هنا تحولت القيمة من قيمة الصدق، إلى رذيلة الكذب والخيانة وعدم المساواة والقهر والإذلال وصار المجتمع نفسه حارسا على حماية الرذائل بتبرير الجريمة.
المجتمع الذى صنع صنما للقيمة الإلهية وألبسه ثوبا نجسا استباح به كل المحرمات، فقرر التخلص والتقرب للمجتمع بذبح الصغيرة الضعيفة، مستبيحا دمها وكرامتها وأمانها وحياتها كلها.
عندما يكون مظهر الصدق في دعم الأقرباء، لكننا في الحقيقة ندعم من ننتفع منهم بالأساس على حساب الصدق، فتنهار القرابة آجلا أم عاجلا.
الأخلاق في ذاتها قوة تبني، إذا ما استطعنا الخروج إليها لا غمسها في ذواتنا ونوايانا واختلافنا.. الأخلاق في ذاتها قادرة على البناء إذا ما استطعنا التجرد لأجلها.. التجرد لأجل أنفسنا، التجرد لأجل الانتقال إلى النور والأمان.


