تقرير مراقب الدولة العبرية يكشف عن شلل استراتيجي في منظومة الأمن القومي الإسرائيلي
يكشف تقرير مراقب الدولة الإسرائيلي، عن خلل استراتيجي عميق يتجاوز حدود التقصير الإداري أو الجمود البيروقراطي، ليعري ضعفًا مؤسسيًا مزمنًا في قدرة الدولة على بلورة عقيدة أمن قومي رسمية وموحَّدة.
فبحسب التقرير، شهدت إسرائيل ما لا يقل عن ست محاولات بين عامي 1998 و2021 لصياغة مثل هذه العقيدة، إلا أنّ أيًا منها لم يُصادق عليه رسميًا من قبل مجلس الوزراء الأمني-السياسي الكابينت، أو الحكومة الإسرائيلية حتى اليوم.
الأمر اللافت أن آخر عقيدة أمن قومي تمّت صياغتها تعود إلى عام 1953، في عهد رئيس الحكومة المؤسس دافيد بن جوريون، ما يعني أنّ إسرائيل ما زالت تُدير أمنها القومي وفق رؤية وضِعت في منتصف القرن العشرين، رغم التحولات الجذرية في بيئتها الإقليمية والدولية.
إخفاق مؤسسي وتجاوز قانوني
في عام 2008، أقرّ الكنيست قانون مجلس الأمن القومي الملّال، الذي ألزم المجلس بفحص عقيدة الأمن القومي وتقديم اقتراحات لتحديثها، غير أن التقرير يُظهر أنّ هذا الالتزام القانوني لم يُنفَّذ مطلقًا: فالمجلس لم يقدّم أي عقيدة محدثة إلى الكابينت الأمني-السياسي منذ ذلك الحين، ما يُظهر تقصيرًا مؤسسيًا واضحًا وتجاهلًا لقانون تنظيمي يهدف إلى ضمان استمرارية التخطيط الاستراتيجي للدولة.
محاولات فردية بلا إرادة سياسية
يرصد التقرير أيضًا إخفاقات على مستوى القيادة السياسية. ففي أغسطس 2018، عرض رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ما وصفه بـ عقيدة الأمن 2030 أمام الكابينت الأمني-السياسي، لكنّ هذه المبادرة لم تُطرح للنقاش أو المصادقة في أي اجتماع لاحق، ولم تكتسب أي صفة رسمية بل أُهملت بالكامل.
هذا المثال يوضح أن الأزمة لا تكمن في غياب المبادرات الفكرية أو الأمنية، بل في انعدام الإرادة السياسية لتحويلها إلى سياسة رسمية مُلزمة.
الدلالات الاستراتيجية
1. شلل استراتيجي طويل الأمد: استمرار غياب عقيدة أمن قومي رسمية على مدى أكثر من سبعة عقود يعكس أزمة في التفكير الاستراتيجي، حيث تتعامل إسرائيل مع التحديات الأمنية المعقدة بمنهج رد الفعل لا بمنهج الرؤية طويلة المدى.
2. تآكل مبدأ سيادة القانون: امتناع مؤسسات رسمية، وعلى رأسها مجلس الأمن القومي، عن تنفيذ واجباتها التي نصّ عليها القانون يثير أسئلة حول فعالية منظومة الحوكمة والمساءلة في أخطر ملفات الدولة.
3. تسييس الأمن القومي: الفشل المتكرر في إقرار عقيدة موحدة يشير إلى أن الخلافات السياسية والمصالح الحزبية تتغلب على المصلحة الوطنية العليا، محوّلة ملف الأمن إلى أداة للصراع السياسي الداخلي.
4. فجوة مع تحديات العصر: استمرار الاعتماد على رؤية تعود إلى خمسينيات القرن الماضي في بيئة تهيمن عليها حروب غير تقليدية الهجمات السيبرانية، والطائرات المسيّرة، وحروب الأنفاق، يُنتج فجوة استراتيجية تهدد التوازن الأمني للدولة.
وختاما، فإن تقرير مراقب الدولة يُبرز أنّ إسرائيل تمتلك منظومة أمنية متقدمة تقنيًا، لكنها تفتقر إلى البنية الفكرية والمؤسسية التي توحّدها ضمن إطار استراتيجي ملزِم.
وبينما كانت عقيدة بن جوريون عام 1953 تُعبّر عن روح تأسيسية متماسكة، يعكس الوضع الراهن تراجعًا بنيويًا في قدرة الدولة على إنتاج رؤية استراتيجية متكاملة.
بذلك، لا ينتقد التقرير غياب وثيقة فحسب، بل يكشف عن عجز مؤسسي وإداري يطال جوهر الأمن القومي الإسرائيلي ذاته في زمن تتسارع فيه التهديدات أكثر من أي وقت مضى.


