صدمة تقرير ترجمان: إهمال استخباراتي ممنهج.. وترقيات رغم الإخفاقات
كشف تقرير لجنة ترجمان عن ثغرات عميقة في بنية المنظومة الاستخباراتية الإسرائيلية، مسلطًا الضوء على ما يتجاوز الإخفاقات الفردية إلى أزمة منهجية في تقدير المخاطر وتقييم نوايا الخصم. فالمعلومات التي وصفتها اللجنة بـ”المعلومة الذهبية”، والتي تضمنت خطة مفصلة لاقتحام واسع النطاق، لم تُواجه بأي تغيير في المفاهيم العملياتية، هذا يشير إلى خلل في منظومة اتخاذ القرار، وتحديدًا في القدرة على استيعاب المعلومات غير المتوقعة التي لا تتوافق مع التصورات المسبقة.
1 - البعد التحليلي: أزمة مفاهيم لا أزمة معلومات
التقرير يُظهر أن المشكلة لم تكن ندرة في المعلومات، بل ضعفًا في تفسيرها. فالمعطيات التي وصلت بين 2018 و2022 كانت كافية لبناء سيناريوهات جديدة، إلا أن المفاهيم الراسخة داخل القيادة الجنوبية فرّغت تلك المعلومات من معناها. هذا النمط يعكس ظاهرة متكررة في أجهزة الأمن التقليدية: الميل إلى قراءة الخصم ضمن حدود “المعروف” ورفض السيناريوهات التي تكسر النسق.
يعكس ذلك حالة “العمى المفاهيمي” التي تؤدي إلى تحييد أي معلومة لا تتوافق مع النموذج الحالي، حتى لو كانت صادمة.
2 - البعد المؤسسي: بنية استخبارات مفككة
تبيّن من التقرير أن نقل قسم استخبارات القيادة إلى فرقة غزة - الأقل قدرات - ثم محاولة إعادته لاحقًا قبل وقوع الهجوم، يشير إلى غياب تخطيط طويل المدى وتخبط في هندسة البنية الاستخباراتية.
التحقيق يُلقي الضوء كذلك على مشكلة إدارة الكفاءات داخل المؤسسة العسكرية، حيث تُمنح ترقيات لضباط تورّطوا في إهمال أو سوء تقدير، ما يعكس بيئة قد تفتقر إلى المساءلة الداخلية الواضحة أو تعتمد على توازنات تنظيمية لا علاقة لها بالأداء المهني الفعلي.
3 - البعد السلوكي للخصم: قراءة خاطئة لتطور حماس
تُظهر المعلومات في التقرير أن القيادة الجنوبية صنّفت كتائب النخبة في حماس بأنها “دفاعية”، وهو تقييم يتعارض تمامًا مع قدراتها الميدانية التي ظهرت لاحقًا.
هذا الخطأ في التصنيف يعكس تجاهلًا للتغيرات التي طرأت على سلوك الحركة، وخاصة تطورها من بنية قتالية محلية إلى بنية هجومية منسقة، وهو ما يؤكد أن الخلل لم يكن في جمع المعلومات فحسب، بل في فهم التطور التنظيمي للخصم واستراتيجياته.
4 - البعد الأمني المستقبلي: إعادة بناء العقيدة الدفاعية
التقرير ربما يدفع في السنوات المقبلة إلى تغييرات واسعة على 3 مستويات:
• طريقة تصنيف قدرات التنظيمات المسلحة.
• بنية الاستخبارات الميدانية وكيفية توزيع الصلاحيات.
• آليات نقل المعلومات بين الفِرَق والقيادات.
ومن غير المتوقع أن يكتفي الجيش الإسرائيلي بإصلاحات شكلية، نظرًا لحجم الفشل الذي كُشف عنه، خاصة مع الضغط السياسي والإعلامي الداخلي.
فقد تسعى المؤسسة إلى وضع طبقات رقابية جديدة تُلزم القيادات بمعالجة التحذيرات الميدانية، إضافة إلى تحديث نماذج التنبؤ والتحذير بما يراعي سيناريوهات غير تقليدية.
5 - البعد السياسي والاجتماعي: أزمة ثقة متصاعدة
على المستوى الداخلي، يعمّق التقرير أزمة الثقة بين الجمهور والمؤسسة العسكرية، فالشارع الإسرائيلي كان يتوقع استقالات أو مساءلات، لكن التعيينات والترقيات المثيرة للجدل تخلق شعورًا بأن المؤسسة تدافع عن نفسها قبل أن تحاسب نفسها.
هذه الأزمة قد تدفع في المستقبل إلى:
• مطالب بإشراف مدني أشد على المؤسسة العسكرية.
• نقاش داخلي حول حدود الصلاحيات الاستخباراتية.
• ضغط لإعادة تعريف العلاقة بين القيادة السياسية والجيش في إدارة التحذيرات.
6 - البعد العملياتي: من الدفاع إلى الهجمات الاستباقية
الدرس الأكبر الذي تستخلصه المؤسسة الإسرائيلية من التقرير هو خطورة الركون إلى التقييمات الدفاعية.
وفي هذا الإطار، من المتوقع أن تتجه العقيدة الأمنية مستقبلًا إلى:
• تعزيز القدرات الهجومية الاستباقية.
• توسعة دائرة المتابعة لتشمل الوحدات المصنفة سابقًا بأنها “غير تهديدية”.
• دمج وحدات التحليل المتقدم والذكاء الاصطناعي لضمان عدم تجاهل المؤشرات الضعيفة.
وختاما، فإن تقرير لجنة ترجمان لا يكتفي بتشخيص الفشل، بل يفتح الباب أمام مراجعات بنيوية قد تعيد تشكيل طريقة عمل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية خلال العقد المقبل. فالأزمة التي كشف عنها التقرير لا تتعلق بماضٍ مأساوي فقط، بل تشير إلى مستقبل حافل بتغييرات عميقة في العقيدة والدور والاستخبارات وآليات اتخاذ القرار.


