المعزوفة الأخيرة للعقيد سامي عرفان
1
في لقاء صحفي أجريتُه مع الكاتب والقاضي أشرف العشماوي قبل عدة سنوات قال لي إنه يفضّل أن تكون شخصيات عوالمه الروائية شخصيات خيالية، حتى وإن كانت الرواية ذاتها تاريخيّة تستند في جزء منها على شخص حقيقي كالملك فاروق في صالة أورفانيللي وشيكوريل في سيدة الزمالك، وإنه قد يستلهم خيطًا أو هيئة حقيقية من شخص حقيقي لكنها يبني عليها عوالم الرواية فتندثر الشخصية الحقيقية تماما ولا يعود لها وجود.
2
العقيد الفنان "سامي عرفان" هو بطل الرواية الأحدث لأشرف العشماوي "السيمفونية الأخيرة"؛ ضابط المراسم في "رئاسة الجمهورية" في عهد الرئيس أنور السادات والرئيس حسني مبارك، والذي تتأرجح شخصيّته وخيوطه النفسية- التي يمسكها العشماوي ببراعة- حسب عمله في الأجهزة المختلفة: ضابط بموسيقى الشرطة ثم ضابط مراسم برئاسة الجمهورية ثم ضابط في أحد الأجهزة الأمنية السياديّة؛ تاركًا للقارئ حرية الاعتقاد في الجهاز المقصود.
يتناوبان الحكي في "السيمفونية الأخيرة" صوت راوي عليم، وصوت راوي متكلم يحكي حكايته بنفسه، حكاية الطفل المدلل من الجدّة بعد وفاة والديه والذي نشأ نشأة معقّمة بعيدة عن التجارب بسيطها ومُعقَّدها بداية من اتساخ الملابس بطين كرة القدم أو السقوط من فوق الدراجة الصغيرة أم 3 عجلات.
ومع التدرّج والتوغُّل السياسي يتوغّل العشماوي في الطبقات المتراكمة لنفسيّة سامي عرفان أو العقيد الفنان عازف الموسيقى المتميز كما يصرِّح العشماوي، والنرجسي بامتياز كما "لم يصرِّح" لكنه يعبّر ببراعة عن نزوعه للعنف منذ الصغر، العنف المصاحب للفنّ، خنق أفراخ الحمام بنفس الأصابع التي تحتضن الكمان وتداعب الأوتار. كيف يتحوّل الشخص المنطوي ذو الحسّ المرهف الذي خشي الجماهير المنتفضة ذات يوم ويكاد يصرخ بهم حين تقدّموا نحوه "أنا ضابط في موسيقى الشرطة" إلى مُراقِب ومحقق في الجهاز السيادي، يكنّ كرهًا مبنيًا على عداءات شخصيّة، والكره هنا ليس مجرد مشاعر تعتمل داخل القلوب، الكُره عند مَن يملك السلطة كُرهٌ مُسلَّح بأجهزة التنصُّت وتلفيق الاتهامات والاختفاء القسري والذي اقترن في الرواية باختفاء الصحفي رضا هلال.
وبينما هو غارقٌ في مكائده واستغلال نفوذه يختار أكثر الأماكن شاعرية وخلوًا من البشر كي يعدّ لنفسه وحبيبته سكنًا هادئًا بعد التقاعد، تلك الحبيبة التي كانت مثالًا نموذجًا على نرجسية مبكّرة، وفي ظل هذه الحالمية والشاعرية لروح الفنان تتحرك أصابعه تجاه أفراخ الحمام، ثم يقف عازفًا للموسيقى على المسرح يسمع الهتافات والتصفيق الذي يدمي أيدي الجمهور تعويضًا عن الاحتقار وشعور الضآلة وانعدام الحيلة الذي صاحبه في حياته المبكرة.
3
يتقن أشرف العشماوي لعبة تبادل الأدوار وإعادة التوزيع، فيصبح المطارِد مطارَدًا والعكس. وبين العقيد هشام في "زوجة رجل مهم" والعقيد خالد صفوان في "الكرنك" وطلعت مرجان في "طائر الليل الحزين" يبحثُ سامي عرفان عن التخارج الذي يليق به بعد انتهاء الخدمة. يتقمّص بنفسيته المتأرجحة دور المتقاعد/ المطرود ويتخيّل محاكمته المستقبلية، حتى يجد شبحًا يترصّد حفلاته الموسيقية التي يحييها بانتظام، شبحًا يجلسُ في الصفّ الأول في المسرح ويقدّمه لنا العشماوي من الفصل الأول ملازمًا للبطل ومثيرًا تساؤلاتنا عن مَن هو ولماذا يتربّص به على هذا النحو، تاركنا نستنتج أن هذه هي الهاوية التي ما إن تحدّق فيها حتّى تحدّق فيك، أو كما قال الحجاج بن يوسف الثقفي بعدما قتل سعيدًا بن جبير: "مالي ولسعيد بن جبير، مالي ولسعيد بن جبير!".
سألته منذ سنوات وأظنه مازال على العهد وأن جوابه لم يتغيّر: هل القاضي بداخلك يحاكم شخوص أعمالك؟ هل تعاقب أبطالك على سوءات أعمالهم وتتحيّن القصاص في النهايات الشاعرية العادِلة؟ قال: "لا، فكلنا بداخلنا المساحة الرمادية بين الأبيض والأسود، وأنا ألتمس لأبطال رواياتي الأعذار لأن أعمالهم هي نتائج النشأة ومجريات الحياة".
وعلى هذا فإنني لن أتوغل أكثر من ذلك في الكلام عمّا جرى لسامي عرفان وما كان شاهدًا عليه في الأروقة والدهاليز فأصبح سَلَبة مربوطة في رقبته، لكنني أستعير التعبير العميق الذي وصف به العشماوي سامي عرفان في إيجاز لا يخلو من حقيقة، حين قال سامي عن نفسه بعدما سخّر كل نفوذه لظلم ومعاداة خصمه: "أنا لن أندم، لكنني لا أريد أن أكون ظلًا لرجلٍ مات واقفًا".
4
بخلاف بعض التفاصيل المُربِكة كتباين المعلومات حول السنّ التي انتقل فيها سامي عرفان للمعيشة مع الجدّة: 5 سنوات حسب الراوي العليم، عدة أشهر حسب الراوي المتكلم وبطل الرواية، وتفاصيل أخرى حول إذا كان سامي يعرف شكل زوج دينا يعقوب أم لا يعرفه، فبرغم كل ذلك تظل هذه الرواية من أهم الأعمال التي كتبها الأستاذ أشرف العشماوي، من حيث تشريح النفس البشرية المتعرّضة لتأثيرات السلطة والنفوذ قبل وأثناء وبعد التعرُّض، فكأنما هو عالِم ذرّة يدرس تغيرات كائن تعرّض للإشعاع الذرّي.
ولعلّني بعد الانتهاء من هذا النص أتساءل: هل من الممكن أن يكتب أي روائي مصري آخر غير القاضي أشرف العشماوي نصًا كهذا دون أن يحتاج لكتابة مفتتح تنويهي وإقرار رسمي بأن "أحداث هذه الرواية من خيال المؤلف وأي تشابه مع الواقع هو من قبيل الصدفة"؟ أو أن يجعلها رواية ساخرة فيكتب في بدايتها "حدث ذات مرّة في دولة موزمبيق"؟


