سيكولوجية الجماهير في زمن الانتظار.. كيف يصنع الناخب قراره؟
بين جولتين انتخابيتين، تقف الجماهير المصرية أمام لحظة صامتة ظاهريًا وصاخبة داخليًا، لحظة ليست محسوبة زمنيًا بقدر ما هي محسوبة وجدانيًا، حيث يتراجع الضجيج وتعلو مساحة التأمل، ويبدأ الناخب في استدعاء ما رآه وما اختبره بعينيه، لا ما سمعه عبر منصات الحشد.
هذا الزمن، الذي يمكن وصفه بأنه "زمن الانتظار"، لم يعد فقرة انتقالية بين مرحلتين، بل مسرحًا نفسيًا يختبر فيه الجمهور نفسه كما يختبر فيه المرشحين، وتعيد فيه الذاكرة الجماعية ترتيب صورها بعيدًا عن حرارة المنافسة.
وخلال الأيام الماضية، اكتسب هذا الزمن بعدًا إضافيًا مع تدخلات رسمية انعكست مباشرة على وعي الشارع، فقد قال الرئيس عبد الفتاح السيسي، عبر حساباته الرسمية، إنه وصلته الأحداث التي وقعت في بعض الدوائر التي شهدت تنافسًا بين المرشحين الفرديين، مؤكدًا أن فحص هذه الوقائع والطعون هو اختصاص أصيل للهيئة الوطنية للانتخابات باعتبارها هيئة مستقلة، وطلب الرئيس من الهيئة التدقيق الكامل في كل ما ورد إليها، وأن تتخذ ما يكشف إرادة الناخبين كما هي، وأن تتحقق من حصول مندوب كل مرشح على صورة من كشف الحصر العددي من كل لجنة فرعية، حتى يمثل النواب الشعب تمثيلًا حقيقيًا تحت قبة البرلمان، كما طلب الرئيس عدم التردد في اتخاذ القرار الصحيح إذا تعذر الوصول إلى الإرادة الحقيقية للناخبين، سواء بالإلغاء الكامل أو بإعادة الانتخابات في دائرة أو أكثر، وكذلك إعلان الإجراءات المتخذة تجاه مخالفات الدعاية من أجل رقابة فعالة تضمن نزاهة المنافسة المقبلة.
وفي مشهد موازٍ، وخلال تفقده اختبارات المتقدمين لأكاديمية الشرطة، أكد الرئيس ضرورة اختيار ممثلين يتمتعون بدرجة عالية من الوعي، في إشارة لافتة إلى أن البرلمان ليس فقط مؤسسة تشريعية، بل مرآة وعي الدولة والمجتمع.. وجاء قرار الهيئة الوطنية للانتخابات بإعادة التصويت في تسع عشرة دائرة ليعطي زخمًا لهذه الرسائل، وليمنح الناخب شعورًا بأن العملية تحت مراجعة جادة، وأن صوته ليس مجرد إجراء شكلي بل قيمة صانعة للمسار.
هنا تحديدًا يتقاطع ما يجري في الواقع مع ما كتبه المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير" قبل أكثر من قرن، فقد تحدث لوبون عن أن الجماهير في لحظات الانفعال تتحرك بالعدوى العاطفية، لكن بعد انحسار الموجة، يبدأ العقل الجمعي في ممارسة فعل التفكيك والتحليل، وتبدأ عملية غربلة واسعة للصور والانطباعات، والمشهد المصري اليوم يقدم نموذجًا واضحًا لهذه الحركة النفسية، حيث تتراجع التأثيرات اللحظية لصالح تقييم أعمق يعتمد على التجربة الشخصية ومصداقية الخطاب ومتانة السلوك.
واللافت أن هذا النضج الجماهيري لم يتشكل في فراغ؛ فالخمسة عشر عامًا الأخيرة، بما حملته المنطقة من انتفاضات وتغيرات حادة، أسهمت في تشكيل وعي سياسي أكثر حذرًا ونضجًا لدى المصريين، فقد رأى الناس دولًا دخلت مسارات مواجهة طويلة بين جماعات تتصارع على السلطة، ودولًا أخرى انتُزع القرار فيها لصالح فصيل مسلح، وأخرى ظلت واقفة عند عتبات التحولات الأولى، غير قادرة على العبور نحو استقرار حقيقي، كل هذه التجارب، بتكلفتها الإنسانية والسياسية، صنعت لدى المجتمع المصري حساسية أكبر تجاه الفوضى، وقدرة أعمق على قراءة الفرق بين التحول والانهيار، وبين الإصلاح الحقيقي والوعود التي تقود إلى المجهول.
وفي ظل قيادة تعيد ضبط مؤشر بوصلة البلاد نحو العمل والإنتاج والوعي والثقافة، أصبح الجمهور أكثر قدرة على تمييز من يطلب صوته بدافع العمل الوطني، ومن يطلبه بدافع الغلبة أو الرغبة في موقع، هنا يخرج إلى السطح مفهوم بالغ الأهمية يمكن تسميته بأنه معيار الحسم في وعي الناخب، فالعامل الذي يرجح كفة مرشح على آخر لم يعد مرتبطًا بحجم الحضور الدعائي أو كثافة الظهور، بل بالاتساق الداخلي للمرشح: هل يتصرف بثبات أم يتغير بتغير الجمهور؟ هل يعرف حدود دوره أم يطلق وعودًا تتجاوز سلطته؟ هل يقدم معرفة أم يستعير خطابًا مستهلكًا؟ هذه التفاصيل التي قد تبدو ثانوية هي التي تصنع اليوم قرار الناخب في لحظة الهدوء، وتحدد من يستحق الثقة ومن يستحق أن يبقى على عتبات المنافسة.
ولم يتوقف تطور الوعي الجماهيري عند حدود المرشحين، بل امتد إلى فهم أعمق لدور الدولة ومؤسساتها، فالناخب المصري يتابع قرارات الهيئة الوطنية، ويقارن بين ما حدث داخل اللجان وما يصدر من بيانات رسمية، ويرى أن إعادة الانتخابات في دوائر محددة ليست أرقامًا، بل رسالة تقول إن الإرادة الشعبية محل احترام، وإن العملية قابلة للتصحيح لا للتمرير، وفي هذه النقطة تحديدًا، يتحول "زمن الانتظار" من فراغ إلى مساحة يُعاد فيها بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات.
واللافت أيضًا أن الناخب لم يعد يخضع بسهولة لألاعيب الحملات أو الوعود التي تتبدل بتبدل الجمهور، فهو يسأل نفسه ويكتب على مواقع التواصل الاجتماعي باستمرار: من هذا الشخص؟ كيف كان قبل الحملة؟ هل ما يعد به مما يدخل في اختصاص البرلمان أم أنه كلام يصلح للمنصات لا للواقع؟ هل يسعى لتمثيلي أم يسعى للحصول على مقعد؟ هذه الأسئلة البسيطة ظاهريًا، العميقة في جوهرها، أصبحت جزءًا من أدوات حماية الوعي من الاستغلال السياسي ومن محاولات استدراج الناخب إلى مشاعر سرعان ما تتبدد بعد الاقتراع.
وفي النهاية، تكشف التجربة الانتخابية المصرية أن قرار الناخب لا يصنع في يوم التصويت، بل في الأيام التي تسبقه، في زمن الانتظار الذي تتصارع فيه الانطباعات وتتشكل فيه القناعات، ومن يحترم وعي الناس في هذه اللحظة يكسب ثقتهم عند الحسم، فالجماهير المصرية لم تعد كتلة منفعلة كما تصورها بعض الأدبيات القديمة، بل أصبحت كيانًا واعيًا يعيد بناء قراره بمعايير جديدة: الصدق قبل الصوت، والمعرفة قبل الشعار، والهدوء قبل الاستعراض.
وهكذا يصبح "زمن الانتظار" ليس مرحلة صامتة، بل مختبرًا لصناعة الوعي السياسي، ومساحة يختبر فيها المجتمع نفسه والمرشحين والدولة.. فمن ينجح في هذه المساحة، ينجح في الصندوق.


