دولة التلاوة.. صوت يوقظ القلوب وينير الأمة
هناك لحظات في حياة الأمم لا تحتاج إلى كثير من الشرح، يكفي أن تُطلق الشرارة الأولى، فتتدافع القلوب من تلقاء نفسها، و“دولة التلاوة” كانت تلك الشرارة، نافذة أُزيح عنها الغبار، فعاد منها النور القديم يلمع من جديد، نورٌ يعرفه كل عربي، حتى لو غفل عنه وقتًا.
لم ينجح البرنامج لأنه مجرد عرض تلفزيوني جديد، بل لأنه أيقظ شيئًا عميقًا في الذاكرة، شيئًا يشبه الحنين إلى أصوات الكبار، إلى زمن كانت فيه التلاوة مدرسة للروح قبل أن تكون أداءً للصوت، فجاء البرنامج ليقول للجميع: ما زلنا قادرين على أن نصنع أجيالًا تقرأ القرآن كما يليق بجلاله.
لقد نجح “دولة التلاوة” لأنه لم يخاطب الأذن فقط، بل خاطب الوجدان، جمع بين الفن والروح، بين العلم والمتعة، بين القارئ والمتلقي، فأصبح المشاهد لا يسمع بل يتذوّق، لا يتابع متسابقين بل يعيش رحلة، وكل حلقة منه كانت أشبه ببوابة إلى سماوات أخرى، حيث النغم يطاوع المعنى، وحيث الجلال يسبق الجمال، وحيث القرآن هو البطل الأول والأخير.
ونجح لأنه قدّم لنا نماذج تمضي أمامنا بثبات وتواضع، رأينا الطفل عمر علي عوض، صاحب الاثني عشر عامًا، يقف أمام اللجنة بثقة تُربك من يكبرونه سنًا، وصوت يحمل صدقًا يسبق جماله، ورأينا محمد أحمد حسن، القارئ الكفيف الذي أثبت أن نور القلب يغني عن نور العين، والطفل المعجزة محمد القلاجي الذي أبهر الجميع.
هذه الأسماء لم تكن مجرد متسابقين، كانت رسائل، رسائل تقول إن مستقبل التلاوة ليس محفوظًا في أرشيف الماضي، بل يمضي في حناجر صغيرة لكنها واسعة بنور القرآن.
كما نجح البرنامج لأنه أعاد تعريف “الصوت الجميل”، ليس الصوت العالي ولا كثرة الحركات، بل صدق النية وخشوع القلب، رأينا شبابًا كانوا يبحثون عن طريق، فإذا بالطريق يبحث عنهم، ورأينا أطفالًا يقفون بثبات يليق بمن يحمل كلام الله.
وتميّز “دولة التلاوة” لأنه قدّم القدوة لا اللقطة العارضة، جلس على طاولة التحكيم من يعرف قدر المقام، فكان حكمهم درسًا، وتعليقهم علمًا، وتوجيههم رسالة لطيفة لا تُثقل على المشاهد.
لكن أعظم نجاح حققه البرنامج أنه أعاد للقرآن مكانه الطبيعي في قلب الحياة، صار حديث البيوت في المساء، ولغة الجلسات، وموضوع النقاش في المقاهي والجامعات والمنصّات، وهذا وحده يكفي لنقول إن البرنامج لم يصنع نجاحًا، بل كشف نجاحًا كان نائمًا بيننا ينتظر من يوقظه.
“دولة التلاوة” ليس مجرد برنامج، إنه جسر بين أمس نشتاقه وغد نثق به، وإعلان بأن الأمة التي تحفظ كتابها لا تخشى الضياع.


