الجمعة 19 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

أحاديث الركود بين النمو و"كح التراب"

الخميس 18/ديسمبر/2025 - 12:06 م

من يتابع المشهد الاقتصادي المصري خلال الفترة الراهنة يلحظ مفارقة لافتة تستدعي التوقف، فالأرقام الرسمية تعكس معدلات نمو إيجابية في الناتج المحلي الإجمالي، وعدد من القطاعات يسجل أداءً قويًا، كما توحي المؤشرات الكلية بأن الاقتصاد تجاوز ذروة الأزمة وبدأ يستعيد توازنه تدريجيًا.

غير أن هذه الصورة المطمئنة على الورق لا تنعكس بالقدر ذاته في حركة السوق، فعلى أرض الواقع يعيش السوق في حالة من الجمود، إذ أن حركة البيع والشراء أقرب إلى "النوم" السكون منها إلى الحيوية، فالسلع في المخازن، وشهية المستهلكين في تراجع، والقرارات الشرائية مؤجلة في انتظار وضوح أكبر للرؤية.

هنا تتضح هذه المفارقة المربكة بين اقتصاد يعلن التعافي بالأرقام، وسوق لا يزال يترجم هذا التعافي ببطء شديد، وفي الحقيقة هذا المشهد ليس ظرفا استثناءً مصريًا، ولا ظاهرة طارئة في التحليل الاقتصادي، بل نمط معروف يرافق مراحل ما بعد الصدمات الكبرى.

الاقتصاديون عادةً يعرفون الركود بأنه حالة انكماش في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لمدة فصلين متتاليين، من منظور صافي الناتج والنمو الكلي: الاقتصاد المصري لا يزال ينمو، وبالتالي ليس في ركود تقني ولكن من منظور نشاط السوق والطلب فهناك علامات تباطؤ في بعض القطاعات وضعف في القوة الشرائية قد تشعر به الشركات والأسر.

فالنمو الاقتصادي في حد ذاته لا يُترجم بالضرورة إلى تحسن ملموس في حياة المستهلك اليومية، فبينما يقيس الناتج المحلي الإجمالي حجم القيمة المضافة في الاقتصاد، فإنه لا يعكس بالقدر نفسه سرعة دوران الدخل ولا مدى نفاذ هذا النمو إلى جيوب الناس، وهو ما يعني أن تحسن المؤشرات الكلية، لا يحدث أثرًا مباشرًا في حركة السوق ما لم يتحول النمو إلى دخول حقيقية تعزز القدرة الشرائية وتحرك الطلب.

ويزداد هذا الفارق اتساعًا حين يكون النمو مدفوعًا بقطاعات كثيفة رأس المال، مثل الطاقة، أو مشروعات البنية التحتية، أو السياحة، أو العوائد السيادية، إذ ينعكس هذا النوع من النمو سريعًا على الأرقام الرسمية ويعزز صورة التعافي الكلي، لكنه يتأخر في الوصول إلى السوق الاستهلاكي، حيث تبقى حركة الإنفاق ضعيفة ويظل الإحساس بالتحسن مؤجلًا لدى قطاعات واسعة من المجتمع.

وهنا تتشكل حالة يمكن توصيفها بــ «نمو بلا طلب»، حيث يتحرك الاقتصاد من أعلى إلى أسفل، مدفوعًا بالمؤشرات والقطاعات الكبرى، في حين تظل القاعدة العريضة للمستهلكين تحت ضغوط معيشية شديدة، عاجزة عن تحويل هذا النمو إلى قوة شرائية فعّالة تعيد الحيوية إلى السوق.

دروس من الخارج

ما يشهد السوق المصري اليوم يعيد إلى الأذهان تجارب دول عدة خرجت رسميًا من دائرة الركود، بينما ظل الاستهلاك متجمدًا لفترات ممتدة، ففي إسبانيا، عقب أزمة الديون الأوروبية، عاد الاقتصاد إلى تسجيل معدلات نمو إيجابية قبل أن تعود حركة الشراء إلى طبيعتها.

تحسنت الأرقام، لكن البطالة المرتفعة، وتراكم ديون الأسر، وارتفاع تكلفة التمويل دفعت المستهلكين إلى تأجيل قراراتهم لسنوات، ولم يبدأ السوق في التحرك فعليًا إلا مع انخفاض أسعار الفائدة وشعور المواطنين بأن تكلفة القرار الاستهلاكي لم تعد مرهقة.

وتجربة تركيا تقدم نموذجًا آخر، إذ سجلت معدلات نمو لافتة في بعض السنوات رغم استمرار التضخم وتآكل القوة الشرائية، فكان الناتج المحلي ينمو بينما ينكمش الاستهلاك، لأن الدخول الحقيقية لم تواكب وتيرة ارتفاع الأسعار.

أما الهند، فمرت بمرحلة مشابهة عقب إصلاحات نقدية وهيكلية واسعة، استمر خلالها النمو، في مقابل تراجع ملحوظ في الاستهلاك، خصوصًا لدى الطبقتين المتوسطة والدنيا، إلى أن بدأت السياسات النقدية والائتمانية في استعادة الثقة وضخ السيولة داخل السوق.

القاسم المشترك بين هذه التجارب أن السوق لا يتحرك لمجرد تحسن المؤشرات الكلية، بل عندما يشعر المستهلك بانخفاض المخاطر، وتراجع تكلفة الشراء إلى مستويات محتملة، واطمئنان نسبي إلى أن دخله لن يتآكل أكثر مما هو عليه.

الركود المصري.. أزمة قرار لا أزمة سلع


السوق اليوم لا يواجه أزمة نقص في المعروض كما حدث في فترات سابقة، بل يواجه فائضًا من التردد في قرار الشراء، فالمخازن ممتلئة، والسلع متوافرة، لكن حركة التداول تظل محدودة بفعل حالة عامة من التحفظ والانتظار.

صحيح أن مستويات الأسعار لا تزال مرتفعة، لكنها ليست العامل الوحيد الحاسم، فالمعضلة الأعمق ترتبط بتآكل الدخول الحقيقية، وارتفاع تكلفة التمويل، وسيادة حالة من الترقب بين مختلف الأطراف، فالمستهلك لديه الرغبة في الشراء، لكنه يؤجل قراره انتظارًا لسعر أو فائدة أهدأ ترتب قسطا أقل، والتاجر بدوره يسعى للبيع، لكنه يتمسك بهوامش ربح تحمي رأس ماله الذي تآكل خلال موجات التضخم السابقة.

حتى العروض والخصومات فقدت قدرتها على تحريك السوق كما كانت تفعل من قبل، لأن القرار الاستهلاكي لم يعد مرتبطًا بالسعر المعلن فقط، بل بحجم القسط، وإجمالي الالتزام المالي على مدار سنوات، وبالخوف من الدخول في تعاقدات طويلة الأجل داخل بيئة لم تستعد استقرارها الكامل بعد، وهنا يتجمد الطلب، لا لأنه تلاشى، بل لأنه مؤجل.

في هذا السياق، لا يصبح خفض أسعار الفائدة مجرد أداة من أدوات السياسة النقدية، بل يتحول إلى رسالة ثقة بامتياز.. رسالة مفادها أن مرحلة الضغط القصوى قد انقضت، وأن تكلفة القرار الاستهلاكي لن تظل معلقة بهذا الوزن الثقيل على كاهل الأفراد، فالفائدة هنا لا تؤثر فقط في معادلات التمويل، بل في المزاج العام واستعداد الناس للمخاطرة المحسوبة.

وتؤكد التجارب الدولية أن السوق لا يستعيد حيويته مع تباطؤ معدلات التضخم وحده، ولا مع تحسن الاحتياطي الأجنبي أو تسجيل معدلات نمو أعلى، وإنما حين يشعر المستهلك بأن الشراء لم يعد مخاطرة كبيرة، وأن الالتزام المالي اللاحق أصبح ممكنًا دون خشية من تقلبات.

ومن هذا المنطلق، فإن أحاديث الركود لا تعني بالضرورة اقتصادًا فاشلًا، بل اقتصادا ظل طيلة 4 سنوات يعتمد على "تظبيط" أرقام الاقتصاد الكلي غير مكترث بالأثر المجتمعي اللاحق، وعليه فتوقيت انتقال هذا النمو الذي تظهره الأوراق إلى السوق الحقيقي لم يحن بعد، وبين الأرقام الرسمية وإيقاع الحياة اليومية للناس، تظل الحلقة المفقودة هي إعادة تشغيل الطلب، لا عبر التمنيات، بل بل عبر سياسات تعيد للدخل والتمويل قدرتهما على الحركة من جديد، ويبقى الحال كما هو عليه: "الدولة ماشية لكن الناس بتكح تراب".

تابع مواقعنا