بين التحضر والهوية
في عالم سريع التغير، بين التحضر والهوية، يقف الإنسان في مجتمعاتنا العربية أمام سؤال جوهري بعد كل ذلك التيه واستيراد أفكار ربما هي عادية وتناسب مجتمعات أخرى لكنها لا تناسبنا بالضرورة كونها لا تحمل هويتنا.
والسؤال: ما هو التحضر؟ وما هي الهوية؟ وهل يمكن أن يتعارض أحدهما مع الآخر؟
التحضر بكل تأكيد ليس مجرد شوارع معبدة أو أبنية شاهقة أو ملابس معينة، بل هو سلوك حضاري، يعتمد على ثقافة ممارسة الحياة اليومية برقي، احترام القانون، تقدير الوقت، والانفتاح على العلوم والفنون وهكذا.
أما الهوية فهي العمود الفقري للأمم، الذاكرة الجماعية التي تُحدد الخصوصية الثقافية والدينية والاجتماعية، والتي من خلالها يعرف الإنسان من أين أتى، وما هو دوره في العالم.
فهل التحضر يتعارض مع الهوية؟
التاريخ عندما نتأمله سنجد أنه يجيبنا بوضوح ويقول لا، بل إن التحضر الحقيقي يقوي الهوية، ويجعلها أكثر ثباتًا أمام التحديات.
والعرب والمسلمون منذ بداية عهد الخلافة الإسلامية وحتى نهضة المسلمين في الأندلس، كانوا مثالًا على هذا التوازن. فقد ازدهرت العلوم والفنون، وارتقى المجتمع في شتى المجالات، من دون أن يفقد هويته الثقافية والدينية.
لكن المؤامرات التي أحكمت علينا عبر القرون حاولت طمس هويتنا، وأوجدت مراحل وأدوات عدة لتقويض الذاكرة الجماعية، من محاولات دائمة ومستمرة لتهميش اللغة وتشويه فكرة الدين بطرق وحيل كثيرة، حتى يصل الأمر لاتهام من يتمسك به بالتخلف والرجعية لدرجة جعلت البعض وبكل أسف يحاول إخفاء أي مظهر ديني في حياته ظنا منه أن ذلك التحضر، كما كان العمل الدائم على تزييف التاريخ، إلى التحكم في وسائل الإعلام والتعليم بشكل تام خاصة في عصر التكنولوجيا الآن والسيطرة على العقول بصورة غير مسبوقة.
كل هذه المحاولات بكل أسف أثرت بشكل كبير حتى أصبحنا نرى مشاهد داخل البلاد العربية لا تمت لهويتنا بصلة بحجة التحضر، والحقيقة أنها طمس للهوية ومن ثم التيه والتخبط، وبعد ذلك تنتهي الأمة بالكامل وتتلاشى.
ولابد من فهم هذا جيدا ويجب أن لا يزدنا إلا إصرارًا على التمسك بالهوية، وإدراك أن الأمة التي تتخلى عن هويتها تخسر أساسها قبل مستقبلها.
وتجدر الإشارة هنا أيضًا حتى يتم التوازن إلى أن هناك من يظن أن التحضر قد يتعارض مع الدين، ويخشى من أن الانفتاح على الحداثة.
ولكن عندما نأخذ التحضر بمفهومه الحقيقي الذي يقوم على العقلانية، والنظام، والابتكار، سنجد أنه لا يتناقض مع الدين، وإنما يحدث ذلك التناقض عندما يتحول إلى تقليد أعمى فقط أو ضياع للذات.
وختامًا، علينا التذكر بشكل دائم أن الهوية هي أغلى ما تملك الأمم، والتحضر وسيلة لتعزيزها، وليس تهديدًا لها، وإذا حدث ذلك يكون ليس تحضرًا أبدًا.
بين التحضر والهوية، يكمن مستقبل العرب والمسلمين، مستقبل يُبنى على التوازن بين الأصالة والانفتاح، بين الجذور وآفاق الحضارة، وليس بالانسلاخ من قيمنا وهويتنا وديننا بكل تعاليمه السمحة التي حملت في طياتها منتهى الرقي بمعناه الصحيح بلا إفراط أو تفريط.



