الجمعة 19 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

الجوكر المصري محمد صبحي القامة التي أزعجت صُناع التفاهة

الخميس 18/ديسمبر/2025 - 08:53 م

يذكر المؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار حديثًا بليغًا عن القائمين بسياسة نفوسهم، والمشتغلين بتعديل قواهم، وضبط جوارحهم، والمنخرطين في سلك العدل والاستقامة؛ إذ يرى أن كل إنسان مسؤول عن رعاية رعيته، التي هي ذاته أولًا، وجوارحه وقواه قبل غيره، وهو ما يتلاقى مع المعنى المأثور" كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته"، فعدالة الإنسان لا تؤتي ثمارها في غيره ما لم تبدأ بنفسه، إذ إن التأثير في البعيد قبل القريب أمر متعذر.


ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾، ففي الآية إشارة صريحة إلى أن الإصلاح لا يستقيم إذا انفصل القول عن الفعل. 

كما أن الإنسان متصف بالخلافة في الأرض، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾، وهي خلافة تكليف لا تشريف، ومسؤولية لا ادّعاء ومن هنا يتجلّى بيت القصيد ومغزى هذه المقالة؛ فهي ليست كتابةً في باب التمجيد، ولا محاولةً لقول الحق في غير موضعه، وإنما وقفة تأمل في معنى الدور والواجب.. فكل فرد في المجتمع له موقع ومسؤولية لا يسعه التنصل منها، وإذا أدّى المرء ما عليه بحقٍّ وأمانة، كان من الإنصاف أن يُشكر، وأن يُنزل منزلته التي تليق بقدره، لا إفراطًا ولا تفريطًا. 


إن الشخصية التي تعرّضت للهجوم الممنهج خلال الفترة الماضية لم تكن موضع استهدافٍ إلا لأنها عبّرت عن رأيها في أحد الأعمال السينمائية- الفنان المصري محمد صبحي-  ولأن أحد من تتلمذوا على يديها كان طرفًا في ذلك العمل.. غير أن ما جرى تجاوز حدود النقد المشروع إلى هجومٍ مبالغٍ فيه، مرفوض شكلًا ومضمونًا، وخارج عن إطار الأدب واللياقة، سواء على المستوى الثقافي أو المهني، وقد صدر هذا الهجوم عن إعلاميٍّ تعمّد في كل مرة بدوره، استضافة بعض الفنانين الموجَّهين، أو ضعاف الموهبة، أو أولئك الذين يسعون إلى استفزاز الرأي العام باستعراض ممتلكاتهم، وتصدير صورة زائفة للشباب مفادها أن التفاهة طريقٌ سهل وسريع لجني المال والشهرة، وهذا ما يسمى بصناعة التفاهة. 


وكأن هذه القامة الفنية لم يعد من حقها أن تُبدي رأيًا في تلميذٍ من تلامذتها، أو أن تؤدي دور الأب والمعلّم، فتُقوِّم وتوجّه عند الخطأ، استنادًا إلى خبرةٍ طويلة وعمرٍ ممتد أسهما في تشكيل وعيها، وصقل علمها، وترسيخ رؤيتها.. وكأن تاريخها الفني الحافل بما قدّمه من أعمال خاطبت الوعي والوجدان، ولامست التجربة الإنسانية والمجتمعية، لم يكن كافيًا ليمنحها هذا الحق.. وهي أعمال أسهمت، على مدار عقود، في تشكيل وعي المصريين، وامتد أثرها إلى الجماهير في مختلف أنحاء الوطن العربي، بل وتجاوزته إلى آفاقٍ أبعد داخل مصر وخارجها. 


وبما أنني أحد أبناء هذا المجتمع الذين تشكّلت ذائقتهم الفنية والوجدانية على أعمال الأستاذ المسرحي والفنان الكبير محمد صبحي، فإن علاقتي بتجربته لم تكن عابرة ولا طارئة.. فمنذ طفولتي المبكرة، وتحديدًا في بيت جدّتي أواخر التسعينيات، حين لم يكن عمري يتجاوز السادسة من العمر، كنت أتابع مسلسل "يوميات ونيس"و "سنبل والمليون"، الذي لم يكن مجرد عمل درامي، بل مشروعًا تربويًا أسهم في غرس قيم أخلاقية وإنسانية داخل الوعي الجمعي.

 ومع تجاوزي المرحلة الإعدادية، ازداد تعلقي بالمسرح، ووجدت نفسي أسيرةً لأعماله المسرحية، وعلى رأسها "كارمن"، ثم مشروعه الفني الطموح في إعادة تقديم تاريخ وفن “الضاحك الباكي” نجيب الريحاني، في صيغة تحافظ على مكانة روّاد المسرح، وتصون مسيرتهم من التشويه أو الابتذال.. وقد تُوِّج هذا المسار بخروجه إلى الجمهور بمسرحية "لعبة الست"، وهي إعادة واعية لواحدة من أبرز روائع نجيب الريحاني السينمائية، قُدِّمت بروح معاصرة دون أن تفقد أصالتها.


ثم جاءت تجربته الأجرأ والأكثر إشكالية، متمثّلة في المسلسل الذي مُنع من العرض أكثر من مرة، بسبب اعتراض الكيان الغاشم على فكرته، إذ تناول قضية شديدة الحساسية مستندًا إلى كتاب "بروتوكولات آل صهيون"، أحد أخطر الكتب المثيرة للجدل في التاريخ الحديث.. ولم تكن خطورة العمل في موضوعه السياسي فحسب، بل في صعوبة تناوله فنيًا وتجسيديًا، بل وحتى روائيًا، لما يتطلبه من وعي عميق، وتوازن دقيق بين الفكرة والطرح، فما بالك بتحويله إلى خطاب بصري وحسي قادر على مخاطبة الجمهور دون تسطيح أو مباشرة فجّة عرض بأمر من الرئيس الراحل محمد حسني مبارك.


وعلى الجانب الآخر، لن أتوقف عند مرحلتي الجامعية وتأثير فيلم "الكرنك" فحسب، وهو العمل السياسي المصري البالغ الأثر، الذي عرّى ممارسات القمع في ستينيات القرن الماضي، وصوّر كيف تعرّض شباب جامعيون، أمثال إسماعيل وخطيبته زينب، للاعتقال والتعذيب، وأُجبروا على الاعتراف بجرائم لم يقترفوها، بل وحُوِّل بعضهم إلى أدوات تجسس قسرية، في مشهد مأساوي انتهى بتمزق داخلي جمعي، وانكسار وطني تُوِّج بهزيمة عام 1967. ثم جاء ختام العمل متقاطعًا مع لحظة تاريخية مفصلية، حيث صدر العفو في عهد الرئيس أنور السادات، وأُفرج عن المعتقلين تزامنًا مع انتصار أكتوبر واسترداد الأرض والكرامة.
أفلا يحق بعد ذلك للفنان المسرحي، والأستاذ الذي خرّج أجيالًا، أن يعاتب ويُبدي رأيه، لا سيما حين يكون الحديث عن أحد تلامذته؟ علمًا بأن ما ذُكر هنا ليس إلا مقتطفات محدودة من مسيرة حافلة، لا استعراضًا كاملًا لكل الأعمال.


الأكثر أهمية، لا يسعني أن أُبدي رأيًا في عملٍ فني لم أشاهده بعد -فيلم الست- وسأقوم بمشاهدته قريبًا. غير أن هذه الملاحظة تظل ضرورية: فالمنتج الفني أو الأدبي يخضع بالأساس لذائقة الجمهور، وليس من شرطه أن يحظى بإعجاب الجميع، ولا أن ينال قبولًا عامًا. ومن يظن غير ذلك فهو واهم. فطرح العمل على الجمهور يفتح بالضرورة باب النقد كما يفتح باب الإشادة، أما من يرفض النقد رفضًا مطلقًا، فكان الأجدر به أن يقدّم عمله - أيًّا كان مضمونه أو جنسه الفني - في قاعة عرض مغلقة، يقتصر حضورها على المقرّبين، ليستمع إلى ما يودّ سماعه فقط.


وننتقل إلى النقطة الجوهرية.. الفنان الكبير محمد صبحي قامة فنية وثقافية، وصاحب مسيرة لا يُستهان بها، وأحد روّاد المسرح المصري الحديث، ومن حقه - بل من واجبه - أن ينتقد تلامذته، وأن يُبدي رأيه في أي عمل فني، أيًّا كان نوعه أو صانعه.. فقد قدّم للدراما المصرية على شاشة التلفزيون الرسمي بعضًا من أجرأ وأقوى الأعمال التي واجهت الواقع بوعي وشجاعة.


إن محمد صبحي علامة فنية كبرى تُدرَّس، ولا يقل شأنه أو تأثيره عن رموز الفن المصري الكبار، أمثال نور الشريف، ومحمود عبد العزيز، وعادل إمام، وغيرهم من أصحاب التجارب الراسخة.. ولو قُدّر لي يومًا أن أكتب سيرة فنية غيرية، لتمنّيت - بحكم دراستي للمسرح وفن السرد والرواية - أن أقدّم دراسة تحليلية متعمقة عن محمد صبحي، وفنّه، ومسرحه، ومدرسته الفكرية والجمالية.


أما النقطة الثانية، فهي موجهة إلى الخطاب الإعلامي ذاته.. حين يتناول الإعلامي قامة فنية يحترمها الشعب المصري، فإن الحد الأدنى من المهنية يفرض عليه أن يتحدث باحترام عن فنها، وأدبها، وذوقها، ورقيها، وقبل ذلك علمها وعملها. وإن عجز عن ذلك، فبوسعه أن يتعلّم من غيره من الإعلاميين أصول إدارة الحوار، وأخلاقيات النقد والمهينة، وفن الاختلاف دون إسفاف أو تشويه.


وأما الحجة الواهية التي سيقت لتبرير الهجوم، بزعم أن محمد صبحي انتقد الفيلم للتغطية على خلاف شخصي مع سائقه، فهي حجة لا يصمد أمامها عقل سليم ولا ضمير حي.. فهل اطّلع أحد على نياته؟ وهل شُقّ عن قلبه ليُحكم عليه بهذا القدر من الجزم؟


ثم إن الفنان محمد صبحي رجل متقدّم في العمر، ويمر بظروف صحية دقيقة، إذ عانى من مرض خطير يتمثل في فيروس أصاب المخ، ولم يكن قادرًا على تحمّل الخروج أو الازدحام.. ومع ذلك، خرج ليطمئن جمهوره، وحضر تكريمًا له، على أقل تقدير، بدافع إنساني خالص، ليؤكد قدرته على الاستمرار وحب الحياة وهذا في حد ذاته موقف يُحسب له، لا يُستغل ضده.


أما ما أُثير بشأن واقعة السائق، فالثابت أن الأخير لم يكن غائبًا كما أُشيع، بل ظل جالسًا بجوار الباب قرابة عشرين دقيقة بعد خروج الأستاذ محمد صبحي، وهي واقعة يمكن التحقق منها بمراجعة شهادات العاملين والمنظمين بالمهرجان. وحتى إذا افترضنا - جدلًا - أن الفنان قد انفعال، فهو رجل مريض، من مواليد عام 1948، ويكفيه أنه تحمّل الوقوف كل هذه المدة بعد خروجه من العناية المركزة.. ثم إن ما صدر عنه لم يتجاوز قوله: «هات المفتاح»، دون سبّ أو إهانة أو اعتداء، على عكس ما جرى التغاضي عنه سابقًا من وقائع اعتداء علني من مطربين وممثلين على معجبين وسائقين، قوبلت آنذاك بالتبرير والتطبيل.


فليُكفّ إذن عن تصفية الحسابات، وعن الخطاب المُلقّن الذي يُراد به إرضاء مؤسسات أو مصالح شخصية على حساب الفن الحقيقي والقيمة الأصيلة. فمحمد صبحي - شاء من شاء وأبى من أبى - فنان حقيقي، قدّم للدراما والمسرح والسينما أعمالًا لا يستطيع كثير من فناني اليوم محاكاة سطر واحد أو لقطة واحدة منها. والجمهور ليس ساذجًا – بالأخص الجمهور المصري- ويدرك الفارق بين القيمة والضجيج.


وفي الختام، هذا هو تاريخ محمد صبحي، وهو تاريخ لا يُقاس بالمال، ولا تصنعه المؤسسات، ولا يمكن اختزاله أو مصادرته.. وهو تاريخ حافل بأعمال فنية جمعت بين الكوميديا والدراما الاجتماعية الهادفة، مع تركيز واضح على الرسالة والقضايا المجتمعية فقدّم أعمالًا مسرحية وتلفزيونية وسينمائية، وعمل مخرجًا ومؤلفًا، وشارك في أعمال إذاعية أيضًا، بل في العمل الواحد والمسرحية الواحدة استطاع تقديم أكثر من شخصية، بمعنى أدق ومسمى أعمق هو " الجوكر المصري".
من أبرز أعماله المسرحية: الجوكر - الهمجي - أنت حر - تخاريف - وجهة نظر - ماما أمريكا - لعبة الست - هاملت (برؤية فنية خاصة)
ومن أبرز أعماله التلفزيونية.. يوميات ونيس (أجزاؤه المتعددة) - فارس بلا جواد - ملح الأرض - أنا وهؤلاء - عايش في الغيبوبة - رجل غني فقير جدًا - سنبل بعد المليون أما في السينما، فمن أبرز أعماله: أبناء الصمت - الكرنك - هنا القاهرة - علي بيه مظهر والأربعين حرامي - العميل رقم 13 - الشيطانة التي أحبتني - محامي تحت التمرين - رجل بسبع أرواح - أونكل زيزو حبيبي.


وتبقى الحقيقة الأهم من وجهة نظري المتواضعة لكاتبة وباحثة شابة من مواليد التسعينيات، لا يزال في هذا الوطن فنانون وإعلاميون لا تُشترى مواقفهم بالمال، لأن ثمة أشياء لا تُقدَّر بثمن؛ اسمها السيرة، والقيمة، والأهم من ذلك كله: النفس الراضية.

تابع مواقعنا