الأحد 28 أبريل 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

كريم محجوب يكتب: سينما داوود عبد السيد.. مرآة المجتمع وتحدياته وفلسفته

القاهرة 24
ثقافة
السبت 02/مايو/2020 - 09:03 م

قبل أيام قرأت مقالا هنا على موقع القاهرة 24 يحمل عنوان “الذين أخذوا أكثر من حقهم.. داوود عبدالسيد” للكاتب العباس السكري، يتحدث فيه بشكل عام عن شعبية وجماهيرية مبالغ فيها اكتسبها المخرج السينمائي وكاتب السيناريو داوود عبدالسيد دون وجه حق، وذلك من خلال حيلة تنصيب نفسه مخرجاً نخبوياً يدّعي الثقافة والفلسفة، بجانب علاقته الجيدة بالنقاد الذين يمتدحون أعماله، وهو الأمر الذي ساهم اكتساب عبدالسيد لشهرته، التي يرى الكاتب أنه لا يستحقها؛ كما يؤكد أن المشروع السينمائي لعبدالسيد متوسط القيمة، محدود الجمال، يسبح بعيداً عن شاطئ الشعب بجعبة خاوية لم يخرج منها فقط سوى فيلم الكيت كات، الذي يرى الكاتب أنه لقى تفاعلاً مع الذوق الشعبي للجمهور وأثار دهشتهم!

انتابتني حالة من الحيرة والشك بعد قراءة المقال، استوقفتني لطرح عدد من الأسئلة، هل حقاً داوود عبدالسيد متحذلق نخبوي يدّعى الفلسفة ويتستر خلف جدار هش من الثقافة؟ وكيف لأفلامه التي رأيت فيها الإنسان المصري بزخم مشاكله وتحدياته وتناقضاته أن تكون الآن مجرد سراب وطير يغرد بعيداً عن المواطن والمجتمع؟ هل نطلق على فيلم الكيت كات “متلازمة داوود عبدالسيد” حيث إن باقي أفلامه غير ذات قيمة؟ هل كل هذه الحفاوة النقدية والتكريمات التي حصل عليها عبدالسيد وأفلامه بسبب علاقته الجيدة بالنقاد؟ والسؤال الأهم هل حقاً أخذ داوود عبدالسيد أكثر من حقه؟

في السطور التالية سنسرد إجابات تلك الأسئلة من خلال جولة عامة حول داوود عبدالسيد وبعض أعماله، غير رائعته وعُقدته “الكيت كات”.

البداية

أتم داوود بالأفلام التسجيلية التي قدمها، مرحلة التدريب والتجريب كمخرج وكاتب سيناريو، لينتقل بعدها إلى الأفلام الروائية الطويلة، حيث فرض طابعه السينمائي الخاص، ووصل بأفلامه الروائية إلى مرحلة سينمائية مهمة، ففي العمل الواحد يقدم لك وجبة فنية متكاملة، سينمائية، موسيقية، في إطار فلسفي من صلب المجتمع ونتاج تفاعلاته “الفكرية والسياسية”، مع مراعاة عدم الحياد عن المنطق أو العدو خارج الواقع.

المجتمع كان البوابة التي عبر داوود عبدالسيد منها إلى السينما لا العكس، ويظهر هذا في فيلمه التسجيلي الوثائقي “وصية رجل حكيم في شؤون القرى والتعليم” وهي التجربة الأولى التي أقر نفسه فيها مخرجاً وكاتباً، حيث اشتبك بشكل مباشر مع مشكلة عضال كانت تؤرق الجسد المصري وتستنزفه سنين عددا؛ وهي أزمة التعليم والأمية في القري والنجوع، ويعرض الفيلم محاولات الدولة والمجتمع في التصدي للأمية ومحو أثرها، وكذلك سلط الأضواء على التحديات التي تواجه العملية التعليمية في القرى -وقتها- وتسببت في عزوف الطلاب عن المدارس، وهي الحاجة المادية وطبيعة العمل الزراعي، الذي يتطلب أيادي عاملة وفيرة، وسجل تلك التحديات على ألسنة أبطاله الحقيقيين من أبناء القرية، ووجه بها رسائل لأصحاب القرار للعمل على مواجهة تلك المشكلات التي أظهرها أمامهم بكل شفافية وجعلها عوائق حقيقية تقف أمام العملية التعليمية في الريف، وكذلك خاطب غير المتعلمين محذراً إياهم من مصير حالك عبر تسجيلات مع بعضهم ممن يندبون حظوظهم بسبب أميتهم ويتمنون فرصة يلحقون بها في التعليم.

بزوغ النجم

بزغ نجم داوود عبدالسيد، وظهرت فلسفته بوضوح منذ تجربته السينمائية الأولى “الصعاليك” التي قام ببطولتها نجمان كبيران هما محمود عبدالعزيز (صلاح) نور الشريف (مرسي)، حيث يسرد حكاية صديقين من الصعاليك المشردين أبناء الطبقة المهمشة، لم يتلقيا تعليماً ولم يخرجا من كنف أسرة، بل وجدا نفسيهما في مواجهة أعباء الحياة بالفتوة والنصب والحيلة والخداع جنباً إلى جنب، وهو ما أكده المشهد الحواري الأول في أحد المطاعم حيث هربا دون أن يدفعا حسابهم، ثم يستكمل المخرج التأكيد على شخصياتهم ونهجهم في التعايش بالحيلة من خلال تهريب علب السجائر من داخل الميناء، والإشارة إلى عملهم المتغير دائماً وفق الحاجة، فهم عمال في الميناء وبائعي هدايا، ولاعبي “السبع ورقات” وأحياناً سائقين، فهم دون وجهة ولا هدف. ويأتي المشهد الذي يبدأ معه المخرج في الميل بدفة العمل ومواجهة صعاليكه بحقيقتهما، بعدما احتكوا دون عمد بأحد المارة، المنمقين الذي يرتدى بدلة بيضاء نظيفة ممسكا بسيجار، وهم بملابسهم المتسخة فنعتهما مشمئزاً بالصعاليك، وتركهما في حيرة يتساءلان عن معنى تلك الكلمة حتى يعلموا من مار آخر بأنها “شتيمة” فيلاحقاه، ويحسا على بدلته ووجهه بالطين وهو ينعتهما بصوت عالٍ “صعاليك أوباش سفلة”، حافظ المخرج على الجانب الإنساني والصداقة الحميمية التي تجمعهما من خلال ظهورهما سوياً في معظم المشاهد جنباً إلى جنب، وعلاقتهما بالشارع حيث صور معظم مشاهد النصف الأول من الفيلم في الإسكندرية وأزقتها وحواريها الضيقة لتعزيز التأكيد على علاقتهم بالشارع الذي قضوا فيه أيام “صعلكتهم”. ومع انتصاف الفيلم يلعب داوود عبدالسيد حركته الأهم عندما يخلع الاثنان رداء الفقر لتبدأ رحلة الصعود نحو الثروة والاحتكاك برجال السلطة، ويترك معهم مخرجنا الشارع وغرفة السطوح ويذهب إلى المكاتب الفخمة والقصور. وكأنما انتقل من مكاشفة حياة المطحونين الصعاليك إلى حياة أصحاب الثروات الفاسدة، حيث يُظهر حياتهم الباذخة واحتيالهم ووسيلتهم المخادعة، فعندما قرر مرسي الترشح لمجلس النواب، كان قد مهد لهذا الأمر عن طريق التبرع إلى المساجد والمستشفيات والتقرب من السياسيين ورجال الأعمال، ويخبر صديقه أن الدخول إلى البرلمان هو الطريقة الوحيدة لخدمة مصالحهم وتكبير ثروتهم. وفيما تصدح في الخلفية أغنية “حبايب مصر” بمقطع “ما تقولش إيه ادتنا مصر قول هندي أيه لمصر” يكشف المخرج الغطاء عن الجانب السياسي الذي تسير فيه أحداث الفيلم، فيرفع الستار عن كواليس ما كان يسمى بسياسة الانفتاح، ويُظهر الوجه القبيح لفساد تلك المرحلة من المسؤولين ورجال الأعمال المحتكرين عن طريق دخول رجل جديد بين الصديقين وهو عز الدين الدواخلى الذي يتحكم فيهم تدريجياً ويفرض شراكته المجحفة عليهم وبوجوده تبدأ الخلافات بينهما ويقفا على مسافة بعيدة من بعضهما، وتزداد حدة التوترات بينهما حتى تصل إلى أن يقتل مرسي صديق عمره صلاح إرضاءً للدواخلي، وكأنه أغمض عينيه وقسى قلبه وتناسى ما كان بينهما لاهثاً وراء طمعه وانفتاحه على الثروة.

الإنسان أولاً

نظر داوود عبدالسيد إلى النفس البشرية نظرة مختلفة مُفسرة وليست لائمة، فقبل أن يحكمها أخلاق أو تحددها سلوكيات فهي تتحرك بناءً على دوافع وصراعات نفسية ومجتمعية. ومشاعر إنسانية حية نقلها عبر انفعالات حقيقة وجملاً حوارية قوية، بجانب اعتماده على الموسيقى التصويرية التي لا تفارق أعماله.

فالشخصية مفتاح العمل عند داوود عبدالسيد، وهي بالتأكيد ليست مجردة، بل تحمل في طياتها الكثير، وساهمت عديد من العوامل في بنائها والتأثير فيها -أسرة، مجتمع، مستجدات- فالشخصيات عنده ليست ركيكة خاوية بل دسمة لديها نهج وتتبع فكراً وتُعبر عن فئة معينة في مرحلة معينة ودائماً ما تحمل بُعداً فلسفياً يرفع من قيمة العمل ويضفي عليه قيمة فكرية تثير العقل بجانب القيم الفنية.

فلسفة واقعية أم مصطنعة

الفلسفة عنده ليست منفصلة عن الواقع بل جزء منه والواقع لا يذهب بعيداً عن تلك الفلسفة بل يحذو حذوها، فيستطيع المشاهد بسهولة أن يتعامل مع العمل الفني بواقعية بحتة إذا أراد أو يعتبره عملاً رمزياً ذو دلالة فلسفية بحتة إذا أراد، وهو ما أبدع فيه من خلال فيلمه “أرض الخوف” بطولة الراحل أحمد زكي، حيث يُظهر الصراع الأزلي بين الخير والشر، بين الإنسان وفطرته الخيٌرة النقية والظروف التي تدفعه إلى الأعمال الوحشية، وتقوده إليها بلا معصوب العينين منزوع الإرادة.

أبدع داوود عبدالسيد في خلق شخصية مركبة بالغة التعقيد مليئة بالصراعات النفسية الفلسفية من خلال رؤيته كمخرج، واتباع أسلوب الراوي العليم الذي يعزز هذا الصراع الدائر بين الشخصية ونفسها من جانب، ورجال الشرطة وتجار المخدرات والمجتمع من جانب، وهذا الأسلوب عزز إبداعه ككاتب، مع التأكيد على وجود أحمد ذكي الذي برع في تقديم تلك الشخصية بهذه الحرفية، يحكي أرض الخوف قصة يحيى ضابط البوليس الذي يطلب منه رئيسه أن يقتحم عالم المخدرات ويترك الشرطة، ليتوغل في تلك التجارة ويصبح تاجر مخدرات يتطبع بطباعهم ويعيش حياتهم ولا يفرقهم عنه شيء، مع عدم وجود ضامن أو شاهد على تلك العملية، وأن يظل ذلك سراً لا يعلمه سواه ووزير الداخلية، على أن يورثه الوزير لمن يخلفه، يقبل يحيى المهمة وبقبوله تحتد وتيرة الصراعات في داخله، حتى تبلغ ذروتها فيختلط عليه الأمر أحياناً، هل هو ضابط بوليس أم تاجر مخدرات هل هو الخير أم الشر؟!

تتصاعد الأحداث ويهوي يحيى في تلك الحيرة ليكتشف بعد فترة أن مهمته قد انتهت منذ أعوام وأن الرسائل المطلوبة منه تقف عند ساعي البريد، وأنه الآن ليس إلا تاجر مخدرات، وفي نفس السياق وعلى جانب آخر من القصة وتسلسل الأحداث ظل البعد الفلسفي الوجودي حاضر في الفيلم عبر الرمزية التي انتهجها (الكاتب) داوود عبدالسيد في الأسماء والأماكن فالاسم الحركي للضابط يحيى هو آدم الذي أغوته شهوة المعرفة وقبل المهمة التي تحمل اسم أرض الخوف، عبر رمزية أخرى وهي قضمة التفاحة كإشارة إلى الموافقة وتعزيز لتلك الرمزية التي ظهرت أيضاً في تغيير الإضاءة وحدوث أمطار وارتفاع أصوات الرعد والبرق وبث حالة من الغموض والخوف والتوتر وكأنه رفض إلهى لتلك المهمة، رفض أن يلعب الشيطان في رأس آدم ويقبل بالمهمة ويهبط إلى “أرض الخوف”.

تواطؤ النقاد

ننتقل من فلسفة داوود وواقعة إلى التساؤل الآخر، حول مجاملة النقاد له، وفي الحقيقة هذا السؤال لا يعيب على داوود بقدر ما يشير بأصابع الإتهام إلى الحركة النقدية الفنية من مطلع الثمانينات وحتى الآن، فهي غضت الطرف عن أفلام ليس لها قيمة بل وجملتها وامتدحت صاحبها، بالتالي فإن كل الأعمال التي لاقت حفاوة نقدية هي ضعيفة هشة بعيدة عن الواقع وأن صناعها على علاقة جيدة بالنقاد الذين تجنّوا على المشاهد والمجتمع إرضاءا لأصدقائهم.

ختاماً، يُترك الأمر لكم كجمهور وقراء لتحكموا، حقاً هل أخذ داوود عبدالسيد أكثر من حقه؟

تابع مواقعنا