الخميس 02 مايو 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

محمد عدلي يكتب: ولادة متعثرة

القاهرة 24
الجمعة 05/يونيو/2020 - 01:16 ص

أبلغني الطبيب بميلاد ابنتي الأولى التي انتظرتها طويلا، تخيلت أن  هذا  الخبر السعيد سينهي الحرب التي اشتعلت بداخلي سنوات وسنوات عن حقيقة فائدتي في الدنيا وأهمية وجود شخص مثلي لا ينال من الأشياء سوى النصف في كل شيء، يمهنة الصحافة والكتابة وينجح قليلا، يحب ولا يتزوج، يتحمس لفكرة ما ثم يتركها قبل حبكها وتنظيم أركانها، ورغم أن الطبيب طمئن قلبي على حالة الطفلة إلا أن خبر ميلاد ابنتي العزيزة كان تعيسا أو بوصف أدق مخيفا جدا، والسؤال الذي شغل بالي طوال وقوفي أمام حضانتها (هل ستكتمل السعادة أم ستقف مرة أخرى في المنتصف؟).

أقف أمام الحضانة بعقل شارد، أنظر للطفلة وأوجه لنفسي أسئلة لا أملك إجابتها، هل ندفع أحيانا بغيابنا ضريبة لوجود آخرين، هل التضحية تستحق من الأساس؟، هل كنت أنانيا لهذه الدرجة؟، قطع الطبيب عاصفة أفكار بجملته (زي ما قلتلك الطفلة بخير، لكن المدام حالتها مش مستقرة لسة، لما ينفع تشوفها هقولك).

منذ سبع سنوات، تم دعوتي لإحدى الندوات التي تنظمها بعض المكتبات التي لا تستطيع أن تدفع المبالغ التي يطلبها بعض الضيوف المشاهير فتلجأ لأمثالي من أنصاف المشاهير وقتها الحضور لملئ الندوة بالنقاش والكلام في أي شيء، جلست وأمامي ورقة مكتوب عليها ( عادل الحسيني/ كاتب وروائي)، وهو التعريف الأقرب لقلبي وكنت أسعد كثيرًا عندما يتم وصفي به، ولكن رؤيتي لها في هذا اليوم أسعدني أكثر من تعريفي كثيرا.

كانت بالصدفة حاضرة مع إحدى صديقاتها، اسمها منال، خطفت عيني منذ رؤيتها، جميلة سمراء ممشوقة القوام، كأنني أنظر لإلهة جمال في إحدى الديانات القديمة ، ومن حسن حظي أنها كانت قارئة جيدة ووقع تحت يديها رواية لي ونالت إعجابها، وعندما علمت بقدوم صديقتها للندوة طلبت منها أن تحضرها وتناقشنا سويًا وأنا في كل إجابة على سؤال منها أحاول ألا أقول لها (انتي حلوة أوي).

انتهت الندوة لكنني مازلت أراقبها، أحاول أن أعرف اسمها الثنائي حتى أبحث عنها على مواقع التواصل الاجتماعي، أحاول أن أجد طريقة للكلام معها دون أن أظهر في صورة الكاتب المتحرش، فأنا وإن كنت نصف شهير  يجب أن أحافظ على صورتي الذهنية لدى جمهوري القليل والذي لم يكمل عدده وقتها قاعة تسع 2000 شخص.

وقفت أتبادل أطراف الحديث مع بعض الحضور و أنا أنظر بنصف عين عليها، لمحتها فجأة تتحرك ناحيتي، كدت أرقص من السعادة لكنني تقمصت دور الرزين وأكملت حديثي مع الحضور حتى قاطعتنا بصوتها الذي يشبه عزف الناي الذي قدمه العازف العبقري سيد سالم  عندما غنت أم كلثوم (بعيد عنك حياتي عذاب، متبعدنيش بعيد عنك)،خرج سيد سالم في إحدى الحفلات عن  النوتة وقدم جزء مختلف من العزف فأعجبت بها أم كلثوم وتسطلنت وقالت له (إيه دا؟) ليعيدها مرةأخرى، كانت منال هي العزف الذي خرج عن النوتة وقلت له أنا في إعجاب وانبهار (إيه دا؟).

قالت ( على فكرة انا نسيت أقولك اني قريت روايتك التانية بس معجبتنيش بصراحة)، ضحكت وقلت لها (ولا عجبتني انا، بس دار النشر استعجلتني)، اتفقنا يومها ان نكرر المقابلة لمناقشة الرواية التي لم تنل إعجابها مع وعد مني بعرض فكرة الرواية الجديدة لها لمعرفة رأيها، اتفقنا على ميعاد بعد أسبوع، وأنا طوال الأسبوع أردد جملة أم كلثوم التي قالتها في نفس الأغنية (غلبني الشوق .. وغلبني).

تقابلنا يومها وتناقشنا حول الرواية وبعض أفكاري الجديدة حتى نالت إعجابها واحدة منهم، فكرة رومانسية لم اتحمس لها كثيرا لكتابتي الدائمة في مجال الجريمة والحكايات البوليسية، اختارت فكرة تدور حول تضحية سيدة من أجل تعيش مع الرجل الذي احبته، ضحت بميراثها بعد رفض أشقائها وضحت بعمرها بعد وفاته سريعا نتيجة المرض وظلت تعيش علىذكراه وتكتب له حتى توفت هي الأخرى، وعدتها بالبدء في تنفيذها في أقرب وقت، تعددت لقائتنا بعدها، ناقشنا أفكارا وخطوط الرواية الجديدة وشخصياتها ورأيها فيهم، كانت الرواية الجديدة هي الحجة التي أرى بها الشمس، ورغم إرهاقي الذهني الخاص بالرواية إلا انني كنت مستمتعا جدا، تحولت فجأة من رجل ثلاثيني لمراهق في بداية العشرينات، ورغم افتتاني بمظرها الخارجي، إلا أن قلبها الذي يشع نورا يضيء كل من حوله كان فتنتي الكبرى.

نجحت روايتي الثالثة نجاحا لم أحققه من قبل، تحولت من نصف شهير لحديث المواقع الاجتماعية وجملي التي كتبتها في الرواية أصبحت على أغلفة المواقع ويحفظها الجمهور، أصبحت ضيفا مرغوبا فيه في البرامج الحوارية المهمة،التي اختارت منال فكرتها، راهنت بحسها النقدي والفني على الفكرة الرومانسية بعد ان كنت أميل للكتابة البوليسية،غالبا كتبت الرواية وأنا متيم بها لذلك صدق الجمهور حالة الحب بين أبطالها، كنا نقضي معا في الواقع ساعة من الزمن وأقضي معها على الورق باقي اليوم، دون إرادتي رسمت شخصية البطلة تشبهها كثيرا، وعندما سألتني ضحكت وقلت (اعتقد دا عقلي الباطن مش انا)، لتبتسم ابتسامتها التي تذيب هموم قلبي كأنني طفل وليد.

أعاني من حالة تشاؤم غريبة بسبب إخفاقاتي القديمة، نجحت أكثر من مرة لكن النجاح لم يكتمل، تحمست لأفكار كثير ولم تكمتل، حتى بعد نجاحي الملفت الفترة الأخيرة كنت منتظر للإخفاق حتى أقول لنفسي (أهو شفت.. عيل فقري)، لكنها كانت تميمة الحظ الذي وهبني نجاح يتلو آخر، تحمست للرواية شركة إنتاج سينمائية وقررت أن تتعاقد معي لإنتاجها كفيلم سينما، ذهبت في نفس يوم التوقيع ووقفت على باب منزلها وعندما فتحت الباب قلت لها (أنا اناني أوي بصراحة، وغير اني بحبك انتي وحشك حلو اوي عليا أنا لازم اتجوزك)، وضحكنا سويا بعد أن تأكد لها ولي أيضًا أنني أصبحت مجنونها.

كنت أشعر أنها فرصتي الأخيرة التي أرسلهالي القدر كي أصبح شيئا له معنى في هذه الحياة الطاحنة التي لا ترحم، ساعدتني كثيرا، قدمت لي الدعم النفسي والمادي في وقت الإفلاس الذي تكرر كثيرا، مهنة الكتابة تشبه البورصة، لا تصيب دائما وخسارتها متعددة، خسرت كثيرا لكنني كسبت أكثر، في خمس سنوات نفذت 3 روايات وفيلمين، كٌتب اسمي وسط صناع الدراما وأنا كل أحلامي كانت تنتهي عند شهرة بين معارفي وأقاربي أنني أكتب كتابات جيدة.

لم ينقصني شيئا وهي بجانبي، كنت أسأل نفسي دائما (هل أحبها كل هذا الحب حقا أم أنني مجرد شخص أناني اختار راحته وحظه الجيد)، لم يكن افتراض أنانيتي ناتج عن سوء نوايا، لكنني كنت أشعر دائما أن حبي لها قليل على ما تمنحه لي، تعطيني الكثير وانا فقط أحبها، ورغم كل هذا لم تكتمل السعادة بداخلي.

اتممت عامي الأربعين، واتمت منال عامها الخامس والثلاثين، عندما تكررت حالة الإجهاض التي تتعرض لها خلال حملها المتكرر، أكد لنا الطبيب أن رحمها به عيب خلقي لا يحتفظ بالجنين بعد تكوينه، والنتيجة هي فقدانه خلال الشهور الأولى، حزنت كثيرا، لكنني لم أظهر لها، شعرت أن حزني نوعا من الأنانية ونكران الجميل، هي قدمت كل شيء ماعدا شيء واحد، وانا أبحث عن هذا الشيء!.

بعد شهور من تمثيلي للسعادة، ورغم أنني ممثل جيد للسعادة إلا أنها تعلم جيدا ما يدور في عقلي، ورغبتي التي تكبر يوما بعد يوم في امتلاك طفل، لم ينقص حبي لها مثقال ذرة لكنني تذكرت نظريتي التشاؤمية (أنصاف الأشياء)، إذن نجحت مهنيا وتزوجت حبيبتي لكنني لن أكون أبا أبدا، تلك هي النظرية وتلك هي الحياة التي لا تترك شخص سعيد في حاله.

قبل تسع شهور، دخلت مسرعة وهي ترسم ابتسامة يثقلها الهم لكنها ابتسمة ساحرة كعادتها، قال لي بفرحة (أنا حامل)، لا أعلم مصدر سعادتها وهي تعلم نهاية الموضوع، لكنها أكملت كلامها (الدكتور قالي لو قعدتي على ضهرك لحد الولادة ممكن الجنين يثبت)، بدء كلامها يعطيني بعض الأمل،بدأت استمع باهتمام، استكملت (وأنا عينتك انت الممرض بتاعي، تكتب فيلمك الجديد وانا قعدة ع السرير)، تحمست جدا وبدأت الحياة تضحك من جديد، إلا أن نظرية (أنصاف السعادة ) كانت بالمرصاد.

بدأت بالفعل كتابة الفكرة الجديدة لفيلمي بعد مناقشة بيننا كالعادة، وفي يوم اتصلت بطبيبها الخاص الذي تتابع معه الحمل لسؤاله بخصوص شيء طبي له ضرورة درامية، وبعدها سألته عن حالة منال، قال لي ( بكلمها من شهرين عشان تيجي تنزل الجنين، فكرة انها تنام على ضهرها دي هتثبته لكن هنواجه خطورة كبيرة وهي بتولد، لازم تتكلم معاها).

يومها علمت انني أحبها بقدر العالم وما فيه، يومها فقط تمنيت أن أكون عاقرا حتى يكون سبب منع الحمل مني، ذهبت لها وأخبرتها أنني كشفت الحقيقة،وأخبرتها بضرورة الإجهاض لكنها رفضت وقالت (مينفعش أشوفك نفسك في حاجة ومعملهاش)، قالتها وهي تبتسم ابتسامتها الساحرة التي تضم نصف جمال الدنيا، والنصف الآخر في قلبها.

أقف الآن أمام حضانة ابنتي العزيزة التي كان يوم ميلادها مخيفا ومرعبا بالنسبة لي، انتظر ان تتحسن حالة أمها كي تكتمل السعادة، لكن النظرية المشؤومة تلوح في الأفق، أنظر لطفلتها وأحدثها كأنها أمامي (يلا.. قومي بقى عندي فكرة جديدة هتعجبك اوي)، أحاول منع دموعي لكنها خذلتني، انتظر كلمة من الطبيب تعيد لي الحياة، هل ستعود حقا الحياة أم أنه أمل كاذب، شعرت بيد على كتفي وصوت خلفي يقول (الدكتور عاوزك في مكتبه ضروري).

تابع مواقعنا