الخميس 28 مارس 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

في بيتنا مفقود

القاهرة 24
الخميس 18/فبراير/2021 - 05:21 م

للموت رهبة لا يعرفها إلا من جرب إحساس الفقد، فمعنى الفقد يختلف باختلاف الموقف النابع منه، ولكن يظل فقد الإنسان من أسوء أنواع الفقد، ولا يطفئ نار فقدان الحبيب إلا أنه قدر الله عز وجل ولكل أجل كتاب، فالإيمان بالله يهون وفاة العزيز لدينا، ولكن الذكريات والمواقف تحاول زعزعة ذلك الإيمان الذي يناجي الله فيما لو تأخر قرار الموت كي نعيش مع مفقودنا سنوات أخرى نحقق فيها ما كنا نتمنى له في الحياة الدنيا قبل لقائه في الآخرة.

البيت الذى يفقد عزيزًا يظل في حالة من التوهان غير مستوعب حقيقة ما حدث، رغم أنها الحقيقة الوحيدة في هذه الدنيا المليئة بالشتات، الدنيا  التي تعلقنا بين شاطئ الغربة وشاطئ أهلنا ومنازلنا الأولى، اللذين لا يعرفان موعدًا للقاء.   

يومان ويحل الشهر السادسة لوفاة والدي العزيز 6 أشهر على جرح سيظل يدمى حتى لقائه، نوبات ذنب التقصير المتكررة تسكب على الجرح مزيدًا من الألم، فلم يكن البال يدري أن الوقت قد حان، ولم تعرف النفس أن النهاية اقتربت قبل أن تنهي جميع الحكايات المرسومة في خيالها.

لو أعلم أن الوقت قد حان لعجلت بما كنت أنويه، ذكريات ستظل تلاحقني كلما شعرت بتقصير بدر مني تجاهه، مواقف تلاحق عيني حتى لو كانت بسيطة فيدور بخلدي ماذا لو زادت المحبة وقتها، وماذا لو كنت وقتها تصرفت تصرفًا آخر، فالعقل لا يتوقف عن التفكير غير عابئ بحقيقة الأمور.

عام كان استثنائيًّا منعني من الأحضان عدة مرات، ولكن القلوب كانت تتهافت بالدعوات فتصل مئات الكيلومترات تسند خطواتي في زمن التيه تنجيني من أهوال الحياة. تخترق المكائد التي  تحيطني من كل جانب، تنهال على جسدي الضعيف المتمسك بها حينما يطلبها.

وا خميسا..  ترك في القلب ثغرة ترك وجعًا، فقد كان حنونًا طيبًا عفيفًا عن صغائر الأمور، يساعد بقدر استطاعته، حرص كثيرًا على نيلنا تعليمًا يليق بمكانة مجتمعنا، تعليمًا لم ينل منه شيئا ولكن عقله نال الكثير من مدرسة الحياة، فقد كان كثير الترحال صال وجال في بلاد كثيرة نال منها خبرته الحياتية وكانت أنفع وأجدى.

قبل يوم من وفاته ليلًا نلت الكثير من الدعوات ولم أكن أعرف أنها الأخيرة، وأن ذلك اللسان المنطلق بالدعوات دائما سيذهب بعيدًا، هاتف يرن جعل نبضات القلب تعلو بمجرد سماع بكاء ينذر بأنها النهاية، الجسد سيذهب ويذهب معه كل شيء؛ الدعاء الذي يخرج من القلب، الحضن الدافئ الذي يستقبلك بعد مشقة في غربة قاحلة، العين التي تريد أن تراك الأفضل، النفس التي تتمنى لك الكثير.

أرجوكم دعوني أراه فقد مضى شهران على آخر لقاء، هكذا كانت التوسلات التي جعلتني كالطفل الصغير مارستها طوال ساعات حتى وصولي لأرى جسدي يرقد فوق قطعة حديدية منتظرًا رحيلاً لم نكن نتمناه، رحيلاً لم يخطر ببالنا موعده، 33 عامًا ترى ذلك الجسد وفي دقائق معدودة يرحل ليوثق ألمًا سيظل محفورًا في القلوب.

خميس كان اسمه عاش به معروفًا بين الناس بدماثة خلقه وطيبة قلبه وعفة لسانه عن الخطأ، سعى مصلحًا في كثير من الأمور بنوايا صادقة رسخ فيها الكثير مما شب عليه، خميس يوم وفاته ذلك اليوم الذي لم ينس بكل تفاصيله وجرحه الغائر، وخميس سيكون مقالي ترحمًا على روحه الغالية لعلي أنفع به فيكون صدقةً جارية.

"وغادروني معدومًا بائســًا مـا بيدي اليـوم إلا البُكا

وكل ما كان كأن لم يكــن وكل ما حذّرته قـــد أتى"

اللهم ارحم من اشتاقت لهم القلوب والعيون، اللهم اغفر لمن سكنوا تحت التراب، اللهم أسكنهم فسيح جناتك، اللهم آنس وحدتهم، اللهم هون عليهم ظلمات القبور.

تابع مواقعنا