الجمعة 19 أبريل 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

د. عايدي علي جمعة يكتب: محمد الفيتوري وجائزة نوبل

د. عايدي علي جمعة
ثقافة
د. عايدي علي جمعة
الإثنين 06/ديسمبر/2021 - 08:53 ص

ولد الشاعر السوداني الكبير محمد الفيتوري في بلدة الجنينة، عاصمة دار مساليت غربي السودان، وليس من المعروف على وجه التحديد تاريخ ميلاد الشاعر.

 

ولكن الأوراق الرسمية التي كان يحملها الشاعر رحمه الله تقول إن تاريخ ميلاده 1936م، وذلك اعتمادًا على تسنين الطبيب له.

 

ولد محمد الفيتوري لأب من رجال التصوف اسمه مفتاح رجب الشيخي الفيتوري ووالدته هي الحاجة عزيزة علي سعيد بنت علي سعيد الذي كان تاجرًا للرقيق والعاج والذهب والحرير عن طريق درب الأربعين الذي يربط السوادان وليبيا.

 

هذا الرجل تزوج بجارية مخطوفة اسمها زهرة جدة شاعرنا لأمه وصاحبة التأثير الكبير في حياته، فقد استطاعت هذه السيدة الزنجية المخطوفة من إقليم بحر الغزال أن تصب في وجدان الطفل كل عذاباتها فقد كانت "نصرانية"، شاعرة، ذكية، كثيرة الأحلام، أثرت في الشاعر تأثيرًا بينًا حتى القول إن العوامل الاجتماعية والأحداث منحته تجارب خارجية بينما ساعدته زهرة بأساطيرها ونصائحها وأخبارها على الغوص في الداخل والبحث عن ذاته الحقة.

 

وقد تضافرت عدة أشياء على تشكيل نفسية الشاعر، واستطاعت أن تخط أنهارها في حياته وشعره فيما بعد.

 

فالجدة زهرة سكبت معاناتها في نفس الشاعر بالقدر الذي أورثته ملامحها الإفريقية.  

 

وحينما قامت الحرب العالمية الثانية تعرضت مدينة الإسكندرية التي كان الشاعر يعيش فيها مع أسرته في ذلك الوقت إلى غارات الألمان الجوية، التي كانت تقلق سكان هذه المدينة، وتحول مبانيها إلى أنقاض فأخذ نصيبه من ذلك.  

 

ثم حدث شيء آخر، فقد استضاف الشاعر وأسرته عمدة قرية عرمش بعد أن نزحت أسرة الشاعر إلى الجنوب قليلًا حيث تقع هذه القرية على بعد عشرين كيلو مترًا من بندر كفر الدوار، ومنحهم بيتًا متواضعًا، يقع على الطريق الزراعي الذي يمتد على حافة إحدى الترع التي تجري لري أراضي المنطقة. ومن هنا اتصل الشاعر بالطبيعة البسيطة بشكل عميق، واستطاع أن يرى الفلاحين عن كثب، ويستشعر حجم معاناتهم، وكان هذا البيت من الطوب اللبن تكثر فيه الهوام والحشرات المألوفة في بيئات فقراء القرى، فكان الشاعر القلق بطبعه لا يستطيع أن ينام جيدًا.

 

وإذ ذاك يحدث شيء يبدو يسيرًا لكنه أثر  تأثيرا كبيرًا في نفس شاعرنا فقد كان دائمًا يسمع بعد الفجر بقليل وقع أقدام الماشية يسحبها الفلاحون في طريقهم إلى حقولهم، وكان هناك غلام في مثل سنه تقريبًا يذهب في هذا الوقت ببقرته، وقد اعتاد أن يغني بصوت شجي موالًا بعينه كل صباح يردده هو هو دون تغيير حتى حفظه الشاعر يقول فيه:-

يا دنيا بلا لؤم:-

يكفي الشؤم بزيادة.

خت الحبايب مع

الخلان بزيادة

اللي معاه مال

بيات الورد في أحضانه

واللي بلا مال

بيات رجليه في أسنانه

اللي معاه مال

لحمته من الضحى جيه

واللي بلا مال

يسقى العيش في الميه

يا ليل.. يا عين.

لقد استطاع هذا الغلام بصوته الرائع أن يلفت الشاعر بقوة إلى التفاوت الطبقي البين في المجتمع. الأمر الذي سوف يظل ماثلًا في تجربته ورؤيته بوضوح بعد ذلك. ثم توقفت الحرب.

 

وعادت الأسرة إلى مدينة الإسكندرية بعد عام من مجيئها إلى القرية ودخل الابن (شاعرنا) الأزهر الشريف  الذي لم يكن متفاعلا مع نمط الدراسة فيه،

 

فبدأ يعبر عن الحزن والغربة، وكان ذلك مقدمة الشعر عنده، وحدث أن وقع الشاعر على قصص البطولات الشعبية العربية، فاستطاع أن يشبع احتياجاته الروحية في تلك الفترة، بقراءة سيرة عنترة بن شداد خاصة 

 

كذلك قرأ سيرة بني هلال، وحمزة البهلوان، والأميرات ذات الهمة وسيف بن ذي يزن، وفيروز شاه، وألف ليلة وليلة، ثم اتسعت دائرة مطالعاته  

 

وتجاوز المعلقات العربية فقرأ لشعراء الصعاليك، وشعراء صدر الإسلام، والعصر الأموي والعباسي  وشعراء العصر الحديث.

 

 وفي عام 1955 أصدر الشاعر ديوانه الأول "أغاني إفريقيا" وهو لم يزل بعد طالبًا في دار العلوم التي انتقل إليها من الأزهر في العام الدراسي 1953- 1954م، فأثار هذا الديوان ضجة شعرية، واستلفت الأوساط الأدبية والفكرية في العالم العربي فأقامت الكلية حفلة تكريم اعتزازًا به، لكنه لم يصبر على الدراسة الرسمية فترك دار العلوم بعد عامين، واشتغل بالصحافة خصوصًا في جريدة الجمهورية.

 

وبعد عودته إلى السودان عام 1958م مارس العمل الصحفي في السودان فكتب في مجلات كثيرة، خصوصًا مجلة الإذاعة والتليفزيون السودانية وعمل رئيسًا لتحرير مجلة "هنا أم درمان" حتى سنة 1964م.

 

وبعد ذلك انتقل إلى لبنان، واشتغل بالعمل الصحفي أيضًا. ثم شغل الفيتوري منصب خبير إعلامي في جامعة الدول العربية بالقاهرة، ولكنه ترك هذه الوظيفة عام 1971م لأنه كتب قصيدة "إلى عبد الخالق محجوب ورفاقه" وهؤلاء كانوا مناوئين للرئيس نميري، مما جعله يغضب على الفيتوري: فعاد إلى لبنان، لكنه لم يلبث أن أبعد عنها عام 1974م لأسباب تبدو سياسية.

 

ثم سافر إلى ليبيا وحصل على جنسيتها وتولى عدة مناصب سياسية ليبية، فكان ملحقًا ثقافيًا في سفارة ليبيا في روما ثم بيروت ثم المغرب. وأخيرًا عاد إلى مصر ليعمل مستشارًا ثقافيًا في مكتب المتابعة الليبي بالقاهرة.

وقد اشتهر الفيتوري بشعره، وفي هذا السياق صدر له:

المجلد الأول: دار العودة بيروت.

يضم أغاني إفريقيا- اذكريني يا إفريقيا- عاشق من إفريقيا- معزوفة لدرويش متجول- سقوط دبشليم- البطل والثورة والمشنقة.

المجلد الثاني: دار العودة بيروت

ويضم أقوال شاهد إثبات- أحزان إفريقيا (سولارا)- ثورة عمر المختار- ابتسمي حتى تمر الخيل،  

وقد أصدرت له دار الشروق ثلاثة أعمال هي:

ديوان شرق الشمس غرب القمر 1992م- يأتي العاشقون إليكِ 1992.

قوس الليل- قوس النهار- طبعة دار الشروق 1994، طبعة أولى.

وأخيرًا أصدرت له الهيئة المصرية العامة للكتاب ديوان أغصان الليل عليك 1997م.

وقد استطاع الفيتوري أن ينال بكتاباته تلك مكانة مرموقة، ليس عند العرب وحدهم، وإنما عند غيرهم أيضًا، فقد ترجم شعر الفيتوري إلى العديد من اللغات الأجنبية منها الإيطالية والفرنسية والإنجليزية والألمانية وحظى بتقدير المهتمين بالإبداع هناك، وقد كان شعر الفيتوري هو النموذج الذي استطاع أن يلفت الألمان إلى قيمة الأدب العربي الحديث، فقد كانت "الجامعات الألمانية حتى مقتبل الستينات من هذا القرن لا تعترف بالأدب العربي الحديث على الإطلاق، بل كانت تنظر إليه على أنه لا يرقى إلى مستوى التعرض له في الجامعات، أو على مستوى أكاديمي رفيع .

 

ومن هنا كان لا بد من مواجهة هذا التحدي، وقد تم ذلك على يد الدكتور مجدي يوسف، فقد كان عليه أن يثبت  إلى أساتذة الجامعة في ألمانيا أن هذا الاعتقاد لا يقوم على أساس، من هنا كان على أنه أقدم لهم نماذج من الأدب العربي الحديث تثبت ما أقول، فكان شعر الفيتوري هو أول هذه النماذج التي تحديت بها موقف الألمان المعارض لقيمة الأدب العربي الحديث، وقد كان ذلك في عام 1965

 

وقد قام الدكتور/ مجدي يوسف بترجمة "ياقوت العرش" و"النافذة". وقام المستشرق الألماني الشهير "هانز فير" وكان أستاذًا ورئيس قسم الدراسات الشرقية في جامعة ميوستر في ألمانيا بترجمة "البنفسجات الثلاث" وقام الدكتور مجدي يوسف بنشرها في مجلة فكر وفن بعد تعديل الترجمة ــــ فقد كانت ترجمة هانس فير جافة- مع الأصل العربي عام 1965م. وقام بالتعليق على القصيدة باللغة العربية في نفس العدد .

 

 كما أن المستشرقة الشهيرة الأستاذة آن ماري شيمل- وكانت آنذاك أستاذة في جامعة يون... قامت في الستينات أيضًا بترجمة قصائد للفيتوري من بينها "الطوفان الأسود" إلى الألمانية وهي معجبة جدًا بشعر الفيتوري 

 

ومن هنا فقد "كانت أشعار الفيتوري إذن بمثابة النموذج الذي استطعت به أن أقتحم السياج الذي كان مفروضًا على الأدب العربي الحديث من جانب المثقفين الجامعيين في ألمانيا".

 

وقد كان رد فعل الألمان تجاه ذلك حسنًا، وانفعلوا بشعر الفيتوري بسبب مذاقه الخاص، وقد حدث "تغير حقيقي في الموقف الرافض لأدبنا وثقافتنا المعاصرة من جانب الأساتذة الألمان، وكان يحضر هذه المحاضرات ليس فقط أساتذة الدراسات الشرقية في جامعة كولونيا، وإنما أيضًا المعيدون، وطلبة الدراسات العليا 

وقد كان الدكتور مجدي يوسف يقرأ أولًا النص الشعري العربي، ثم يقدم ترجمته الألمانية، ويعلق على قيمتها الجمالية من خلال الصوتيات في الأصل العربي، وارتباط دلالاته الجمالية بالدلالات الرمزية الموجودة في القصيدة.

 

وقد قامت الصحف المصرية -وعلى وجه التحديد- الأهرام والجمهورية في عام 1966م بتسجيل هذا الحدث الثقافي المهم.

 

فقد جاء في جريدة الأهرام في صفحتها الأخيرة بتاريخ 24 فبراير سنة 1966م بجانب صورة للشاعر وقد كتب تحتها:

محمد الفيتوري:

تقرأ له ألمانيا.

"ألمانيا تقرأ الطوفان الأسود

إلى الألمانية ترجمت 4 قصائد من أعمال الشاعر الأسمر محمد الفيتوري هي "الطوفان الأسود" و"البنفسجات الثلاث" و"ياقوت العرش" و"النافذة" الأولى ترجمتها المستشرقة د./ أنيماري شيمل، وقد نشرت في مجلة فكر وفن"، الثانية ترجمها المستشرق المعروف د. هانز فير عضو مجمع القاهرة، بينما ترجم الأخريين المصري مجدي يوسف المحاضر عن الأدب المعاصر قسم الدراسات الشرقية في جامعة كولونيا، وقد تولى تقديم وتفسير القيم الجمالية في شعر الفيتوري من خلال القصيدتين. وهذه هي   الأولى من "الطوفان الأسود" التي ترجمها المستشرق "هانز فير".

لقد غسل النور أرضك 

حتى سراديبك الرطبة المظلمة

مشى الفجر فيها بأنفاسه

 يفضفض أيامك القادمة

وليس يخفى خطأ نسبة ترجمة هذه القصيدة لهانز فير، فالمعروف أن هذه القصيدة ترجمتها أنيماري شيمل.

 

تابع مواقعنا