السبت 06 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

إخناتون على حدود الإسكندرية.. فأين هي كليوباترا؟

الخميس 22/مايو/2025 - 09:40 م

منذ ما يزيد على أربعة عقود من دراسة وتدريس التاريخ والآثار والحضارات القديمة ما تزال تحضرني دروس أساتذتي الأوائل وهم يلفتون أنظارنا إلى المروية الشعبية ودورها في فهمنا وتعقبنا لشبكات الكشف الأثري في محافظات مصر المختلفة.
‎فقد قرنوا دائما روايات وأساطير واعتقادات الأهالي كمؤشرات لا يجوز الاستهانة بها لدى فحص بقعة بعينها لاستكشاف ما إذا كانت تنطوي على آثار أم لا.
‎ولما مضى بنا قطار العلم والتعلم، بات ملحا على المرء، الاطلاع على علوم أخرى لتعميق النظر في صميم اختصاصه، ومن هذه العلوم الأنثربولوجي والميثولوجي بطبيعة الحال.. فكما ينحو علماء الإنسانيات إلى فهم الأسطورة على أنها التاريخ ولكن بصورة أخرى، ننحو نحن علماء الآثار في محاولة فض الاشتباك بين الأسطورة والمروية الشعبية من ناحية، وبين ما تشير إليه الوثيقة الأثرية التي صمدت على مدار آلاف السنين من ناحية أخرى.
‎فالوجدان الإنساني بطبيعته يميل إلى وضع إضافات ولمسات خاصة على كل حدث واقعي، إلى أن تصير بعض الأحداث مع الوقت أساطير متدثرة بثياب مهيبة من الغيب، ومختبئة وراء تلال من الخرافات التي هي ليست كذلك!
‎وهنا تكمن حرفة التقصي والفصل والمقارنة والتقمص والاستنتاج والتعقب العلمي للدلائل، حتى لقد كان مما قاله أساتذتنا لنا في البدايات أن كل بلدة مصرية تحمل كلمة "تل" على سبيل المثال في بداية اسمها ك"تل العمارنة" مثلا، فهي بلدة تحتوي آثار على الأرجح.
‎وأمدونا بكلمات مفتاحية لأسماء المدن، وبمنهج ذكي لفهم شهادات الأهالي وذكرياتهم المتوارثة حول قراهم.
‎ولعلني اليوم وأنا أسترجع عقودا من الخبرات والذكريات، أزور قريتي في محافظة أسوان، واحدة من أكثر البقاع الأثرية ثراء على وجه الكوكب، فأستعيد مرويات الأهالي حول هذه القرية أو تلك، وأضاهي أحاديث الليالي الصيفية الماتعة بالحقيقة الآثارية الجلية.
‎وأكاد أتعجب من قدرة الإنسان وقدره!
‎فالحقيقة لا تغيب أبدا، بل ربما يعاد تدويرها وتصمد عبر أجيال، وتنتقل عبر آلاف السنين صارخة معبرة عن ذاتها، ولو شوش حولها المشوشون.
‎أستعيد كل هذه المفاهيم العلمية المخلوطة بالذكريات الشخصية وأنا أتابع الكشف الأثري عن وجود مدينة بالقرب من الإسكندرية، تحديدا في منطقة كوم النجوس شمال بحيرة مريوط، ذات ارتباط مباشر بالملك إخناتون الذي ظل حبيسا لتل العمارنة في محافظة المنيا كما في وجدان معظم التاريخيين.
‎ورغم الشواهد المتناثرة التي يستغلها البعض للإشارة إلى وجود دلائل تكشف وصول دعوته التوحيدية إلى الشام والعراق وبعض النطاقات الأخرى، بما ينفي صفة الانغلاق والتقوقع حول مقر حكمه في تل العمارنة.
‎فقد اتهم عصر إخناتون بما يمكن تسميته كسل سياسي عسكري، حين كف يد جيوشه عن إطلاق الحملات العسكرية التي كانت توطد حكم الملوك القدماء وتلقي الرعب في قلوب الأعداء المتربصين على الحدود المختلفة للبلاد، الأمر الذي جرأ كثيرين على مصر في عهده.
‎لكن كشفا كهذا بمدينة كهذه على النحو الذي تميط عنه اللثام البعثة الفرنسية يغير نظرتنا كثيرا لإخناتون وعصره، فقد كانت مدينة ضخمة ومركزا إداريا هائلا، ولها تخطيط مدهش.. بما يقدم الفرضيات المنطقية حول تمدده إلى ما بعد البحر المتوسط أيضا!

‎ولعلني بانهماكي في علم المصريات طيلة عقود، في مشارق الأرض ومغاربها، وبأصولي الأسوانية التي أعتز بها أيما اعتزاز وبإقامتي في عروس البحر المتوسط، إذ درست منذ عقود وحتى اليوم في مدينة الإسكندرية، أجدني أمد الخطوط على استقامتها حين جرت النقاشات العلمية والمباحثات بيني وبين العالم الجليل الأستاذ الدكتور حسن الإبياري أستاذ الدراسات اليونانية والرومانية بجامعة عين شمس، وأجد من الدلائل الوافية أن قصرا لكليوباترا يقبع في ماء البحر المتوسط قبالة شواطئ الإسكندرية..
‎وقد لا يكون المقال الصحفي قالبا مناسبا لاستعراض الأدلة العلمية والنقاشات المعمقة المطولة، لكنني أجد أنه من الجيد والمفيد لقاعات الدرس والبحث وللدوريات العلمية المحكمة، أن تحظى أحيانا باهتمام إعلامي، يسرع وتيرتها ويوفر لها الموارد اللازمة.
‎وفي قناعتي الأكيدة أن مصر ستظل لعمر مديد منبعا لاكتشافات أثرية، بالبحث العلمي الرصين تارة، وبالصدف التي يرسلها المولى عز وجل كهدايا لهذا البلد تارة أخرى.

تابع مواقعنا