عما طُرح بشأن أرض "البحر الأحمر"!

تابعت الجدل الملاحق لما نشرته الجريدة الرسمية بشأن تخصيص أكثر من 170 مليون متر مربع من أراضي الدولة في محافظة البحر الأحمر لصالح وزارة المالية، لاستخدامها في خفض الدين العام للدولة وإصدار الصكوك السيادية، خاصة مع ربط "هذا المشروع" بما حدث في صفقة "رأس الحكمة "مع دولة الإمارات العربية المتحدة.
ورغم أن الفكرة هذه المرة ليست جديدة تمامًا - فقد وردت بشكل عام في مشروع موازنة 2025/2026 ضمن بند "تحسين كفاءة إدارة الأصول غير المستغلة"- إلا أن تخصيص هذه الأرض بالتحديد قد أثار الجدل، سواء حول الشفافية أو الأهداف أو الجدوى الاقتصادية، وهو ما يتطلب محاولة للشرح وللتساؤل أيضا.

ما هو التصكيك؟ ولماذا تلجأ إليه الدول؟
التصكيك هو أداة مالية تُستخدم لتحويل أصل مملوك للدولة أو تدفقات نقدية مستقبلية (مثل إيرادات تأجير) إلى أوراق مالية تُباع في السوق، وعادةً ما يتم ذلك من خلال شركة خاصة تُنشأ لغرض معين (SPV)، وتصدر صكوكًا مقابل حق انتفاع بهذا الأصل، وليس بيعه.
في حالة الأصول غير المنتجة مثل الأراضي -كما هي الحالة-، يتم بناء هيكل مالي (غالبًا عقد إيجار طويل الأجل أو مشاركة استثمارية) لتحويل الأصل إلى وعاء تمويلي يمكن تعبئة السيولة من خلاله، دون التفريط في الملكية.
والهدف هنا يتمثل في توليد تمويل جديد دون اللجوء إلى الاقتراض المباشر، وكذا تحسين مؤشرات الدين العام -المستهدف المعلن-، وأيضا استغلال أصول غير نشطة ماليًا، ومع هذا تتوقف النتيجة المرجوة على طريقة التنفيذ، لأن نفس الأداة التي يُلجأ إليها بهدف الاستفادة وتحقيق مردود على الموازنة قد تُستخدم فقط لتجميل الأرقام.
ما الذي حدث في مصر إذن؟
وفق القرار 303 لسنة 2025، تم تخصيص مساحة ضخمة من أراضي محافظة البحر الأحمر لصالح وزارة المالية لاستخدامها في إصدار صكوك سيادية، لكن لم يصدر حتى الآن أي بيان رسمي يشرح كيف سيتم هذا التصكيك: هل سيكون على شكل تأجير طويل الأجل؟ هل ستُقام عليه مشروعات؟ من سيشتري الصكوك؟ وكيف ستُدار الالتزامات الناتجة عنها؟
وغياب هذه التفاصيل تحديدا هو ما أثار الجدل سواء بين العامة أو النخب، خاصة وأن البعض قد رأى أن ما يحدث يُشبه “صفقة بيع أرض”، بينما رأى آخرون أنها خطوة متقدمة في تمويل غير تقليدي إذا تمت بشفافية وبإطار واضح، ناهيك عن ربطها بالسياسات الاقتصادية ونهج الاستدانة المفرط لتمويل مشروعات غير منتجة.
دروس وعبر في تجارب دولية
وفي الواقع، فإن التصكيك ليس أداة جديدة، وتجارب الدول تكشف دروسًا مهمة لا بد من الاعتبار إليها لأن النتيجة ليست مضمونة وتتوقف كما أسلفت على طريقة التنفيذ.
مثلا في السعودية، عندما استخدمت الحكومة التصكيك لتحويل أراضٍ حكومية إلى أدوات تمويل، خصوصًا في مشاريع الإسكان، وذلك في إطار “رؤية 2030”، وقد تم التنفيذ عبر كيانات حكومية مستقلة، بإشراف واضح، وعوائد الاستثمار ذهبت إلى مشروعات إنتاجية مباشرة.
أما ماليزيا فقد أنشأت شركات تابعة للخزانة أصدرت صكوكًا ممولة بأصول تعليمية وصحية، وتم استخدام التمويل الناتج لتوسعة المدارس والمستشفيات، ضمن خطة تنموية واضحة.
في حين أصدرت إندونيسيا بين 2015 و2018، صكوكًا مدعومة بأراضٍ حكومية، لكن لم يكن هناك أي مشروع واضح لتمويله، وعليه فقد كانت النتيجة كارثية إذ فقدت السوق الثقة، وأُوقف البرنامج بعد وقت قصير.
كذلك في باكستان، عندما حاولت الحكومة تصكيك أصول استراتيجية مثل المطارات، لكن التنفيذ أثار معارضة سياسية وشعبية، وقد توقف البرنامج لاحقا بسبب ضعف الشفافية.
تكشف هذه النماذج عن عبر ودروس لا بد من الاعتبار إليها، وفي تقديري فإن الفارق بين النجاح والفشل في هذه التجارب، يتمثل في 3 عوامل رئيسية، أولها بالطبع وضوح الإطار التنظيمي من خلال قانون أو مرجعية مؤسسية واضحة لإدارة الأداة، ثم الربط بمشروعات إنتاجية بأن يكون الهدف من التصكيك تمويل مشروع حقيقي له عائد، لا مجرد تغطية عجز.
العنصر الثالث وهو هام للغاية لخلق تضامن ودعم شعبي، يتثمل في شفافية الإفصاح بالإعلان عن كل شيء يتعلق بالمشروع، سواء عن تفاصيل الإصدار، الالتزامات، والعوائد المتوقعة، وغيره.
الجانب المحاسبي: الأداة لا تلغي العبء
الإشكالية أن استخدام هذه الأداة لايتوقف عند الإعلان وتفعيل الصفقة بل لا بد أن تكون هناك خطط لاحقة، فحتى وإن لم يُسجّل تمويل التصكيك كدين مباشر في الموازنة، فإنه يُسجل كالتزام طويل الأجل، وفق المعايير المحاسبية الدولية (IFRS 16).
وهذا يعني أن العبء المالي لا يختفي، بل فقط يُعاد تصنيفه من بند “دين” إلى بند “إيجار تمويلي”، وبالتالي، إذا لم يتم استخدام العوائد لتحسين الوضع المالي الحقيقي - كخفض عجز أو إقامة أصول مُدرّة للدخل- فلن يتحقق أي تحسن فعلي.
كيف يمكن إنجاح التجربة المصرية؟
للأسف النية غير معلنة الآن بشكل واضح -لعل هناك دواع تفرض تأجيل التفاصيل-، لكن إذا كانت الحكومة بالفعل تنوي دخول عالم التصكيك، فهناك خطوات واضحة يجب إتباعها لضمان النجاح ولتفادي أن تكون التجربة سلبية بلا نتيجة.
هذه الخطوات تتمحور حول إصدار وثيقة سياسات للتصكيك تحدد الأصول المؤهلة، ونوع الأدوات، والجهة المسؤولة، ثم الإعلان عن خطة استخدام العوائد: ما المشروعات التي ستمول؟ ما العائد المتوقع منها؟
أيضا من الهام، إنشاء وحدة مستقلة لإدارة البرنامج، تكون تحت رقابة برلمانية ومحاسبية، وكذلك نشر تقارير دورية عن الالتزامات والعوائد، حتى لا يتحول الأمر إلى عبء مؤجل، وكل ذلك مع المحافظة على قواعد الشفافية.
أداة… لكن لن تصنع معجزة وحدها
ما قد يحدث في صفقة أرض البحر الأحمر -ومن قبلها رأس الحكمة- قد يكون خطوة جيدة إذا تم تنفيذه وفق إطار واضح وشفاف، وربط بالعائد الإنتاجي أو التنموي، لكن إذا جرى الأمر كعملية “تحسين محاسبي” فقط لتحسين مؤشرات الدين، دون تغيير حقيقي في قدرة الدولة على تقديم خدمات أو إدارة أصولها بكفاءة، فإن التصكيك قد يُؤجل المشكلة فقط، ولن يحلها.
ختاما، فأداة -الصكوك- ليست سحرية، بل تعتمد بالكامل على طريقة الاستخدام، ومستوى الشفافية، ومدى الارتباط بالتنمية الحقيقية، وهو ما يدعو لصياغة سياسة وطنية للتصكيك وفقا للمعايير وللتجارب الدولية، خاصة مع تكرار الاعتماد عليها.