بايرون في القفص.. كيف يقرأ الغرب شعراءه الشياطين؟
أثَارَ مَقالٌ -هامٌ في طَرْحِهِ- للشَّاعِر والباحِث أحمد حافِظ نِقاشًا هامًا -مُكرَّرًا- حولَ كيفيَّة قَراءَتِنِا لُرموزِنا الشِّعْرِية التَّراثيِّة، إذْ طَرَحَ فِكْرةً قَضائِيةً وفَضائِية أيضًا؛ ألَا وهِي: مُساءَلة أبي الطَّيبِ المتنبِّي ثقافيًّا وأخلاقيًّا، هكذَا أوردَ العنوانَ، واصفًا ما جاءَ في بعضِ أشْعارِهِ بالعُنصريّةِ والعُنْفِ وذلكَ وَفْقًا لحداثةِ معايِيرِنا الإنسانيّةِ الحالِية، ومُسْتَدعيًا نَموذجًا شعريًّا غربيًّا كدِليلٍ واضحٍ عَلى تَخلُّفِ رؤيةِ شاعِرِنا – شاعرِ العربيِّة الأكْبر- أبِي الطّيبِ المتنبِّي، أمامَ القِدِّيس الأمْريكي والت ويتْمان شاعِر الإنسانيّة في القرنِ التاسِع عشر.
لا شكَّ عندِي أن هذا الطَّرْح بشجاعِتِه الظَّاهِرة يضعُنا مباشرةً في قلبِ إشكاليّةٍ منهجيّةٍ كُبْرَى، بل ويجعلُ سماءَ تُراثِنا الحَضارِيِّ تَسْوَدُّ؛ لتُمطِرَ علينَا أسئلةً من قَبيل: كيفَ نرْتَدِي تُراثَنا الثقَافِي والفنِّي بِكُلِّ مَا وقَع في ثوبِهِ من بُقَعٍ فِكْريّةٍ صادِمةٍ لَنا اليومَ؟
هَلْ نُمْسِكُ مُدْيَة النَّاقِد المعاصِر إذْ نبترُ بقسوةٍ بالغةٍ كُلَّ نصٍّ قَدِيمٍ تراثيٍّ لا يُوافِقُ قِيمَنَا الحاليّة التِي بالمناسَبة استقرَّ رِكابُها فِي هذا الموضِعِ الأخلاقِي الحالِي منذُ سنينَ معدودةٍ وبعدَ قرونٍ طويلة من التطوُّرِ الفِكْرِي! أم نستخدمُ مِنْظارَ المؤرِّخ والمحلِّل الفنِّي، الذي يضَع على ناصِيةِ عقلِهِ أوَّلًا فهمَ العمل الفنِّي في سياقِهِ التَّاريخي والاجتِماعِي والثقافِي قبل أن يجرؤَ على إصدارِ الحُكْمِ؟
أحاولُ بتوفِيقِ الله تعالَى أن أجيب عن هذَا السؤال في هذا المقالِ، عبرَ تفكِيكِ هذا النّوع من المحاكماتِ الأدبيّة، واقْتراحِ طريقٍ بديل للقراءةِ، طريقٍ لا يُشوِّهُ تُراثَنَا الفَخْريّ ولا يُوافِقُ ما لا ينبغِي لَه علينَا فِيه، فلا يُبرئِهُ ولا يُدِينُه، بل إلى فهمِهِ فهمًا حقيقيًّا عميقًا.
المُفَارَقَةُ الكُبْرَى - كَيْفَ يَقْرَأُ الغَرْبُ شعراءَه الشَّياطِين
لَسْنا بحاجةٍ الآنَ إلى الغوصِ في تُراثِنا العربيِّ، سنستقلُّ أول طائِرةٍ لأخذِ جولة سياحيّةٍ في عقْلِ الثقافة الغربيِّة نفسِها، ونسألُ: كيفَ تتعامل هذه الثقافة مع شعرائِها "الشَّياطِين" هؤلاء الذِين تحدّوا قيمَ عصرِنا الحالِي منذ أكثر من عصرٍ مضَى.
ولعلَّ النموذجَ الأكثر صَخَبًا وشُهْرةً في هذا السِّياقِ هُو الشَّاعِر الإنجليزي العَظِيم جدًا لورد بايرون، فِإذا كانَ المتنبي مُتَّهَمًا لدينَا اليومَ بالعُنْصُريِّةِ والفخر المتعالي المرِيضِ، فإن قائمةَ جرائم بايرون الأخْلَاقِيّةِ -في نَظَرِ مُجْتَمَعِهِ المحافظِ في القرن التاسع عشر- كانت فَدَّاحةً.
إنْ شئتَ قُلْ عن بَايرون؛ إنَّه فَضيحةٌ تَمْشِي على قَدَمين، حَرامٌ طائِرٌ حطَّ على سطْحِ الكنيسةِ، بحرٌ من العلاقَات المحرَّمة اضطّرّوا إلى تَبْخِيرهِ بطُرقٍ شَتَّى، أدَّتْ علاقاتُه تِلْك إلى نفورِ المجتمع منه ونفْيِهِ نفسيًّا والانعزَال عنه فاضطر إلى مغادرةِ إنجلترا -عَزيزِي القارئ ماذَا بعد هذه المعلومة؟- لقد كان يُعرفُ بالبَطلِ البايرُونِي العبقَريِّ المتعالِي السَّوداويّ، الذِي يزدَرِي مجْتَمَعَهُ بهويّتِه وقوانِينِه، وإنْ شئتَ اقْرأ لزوجتِه وهي تتِّهمه بالشّذوذِ، واتّهامِه بالإلحادِ وازدراءِ القيم الدينية في ذلك الوقت.
والسؤال المُلحُّ هنا: شَخْصِيَّةٌ بهذه الدَّرَجَةِ مِنَ الانفلاتِ الأخْلَاقِي والتَمَرُّدِ على الأعرافِ والمقدَّساتِ، ما كَانَ مَصِيرُهَا في مناهِجِ الأَدَبِ في جَامِعَات أوروبا؟ هل تم إقصاؤهُ أو إدانته أو إلغاؤه بِلُغَةِ العَصْرِ؟ العَكْسُ تمامًا صدِيقي القارِئ لقد حُوِّلَ إلى أيقونة، وكُرِّسَ كواحِدٍ مِنْ أَعْمِدَةِ الأَدَبِ الرُّومَانْسِي، إذًا لماذَا؟ لمَاذا كَرّسَ الغربُ شَاعِرَهُ المتمردَ بينَمَا نَحْنُ نُفَكِّرُ في إدَانَةِ شَاعِرِنَا؟
لَمْ تَقُم الأكَادِيميةُ الغربِيَّةُ بمُحَاكمةِ بايرون من الناحِيَةِ الأخْلَاقيةِ (أخلاقِيَّاتهم هُم- عاداتهم هُم- ما لا ينبغِي عندَهم هم) إذ شَرَّحَتْ تصرُّفاتِهِ، فَفَهِمَتْ سيَاقَها التاريخي بَعْدَ الثَّورةِ الفرنسية، ونُشير إلى بعضِ هذه الأعْمال الجرِيئة ذلكَ الوقت والمتمرّدة على قيم المجتمعِ:
- مَسْرَحِية مانفريد، صَرخةٌ ضدَّ إلَه المجتمَعِ، ضَد القَدَرِ، ضدَّ كل الأعراف، واغْتيال قدسيّة الروابِط الأسريّة ومفهومِ التَّوبة بالاتِّكاءِ على ما نُسمِّيه نحنُ (زِنا المحارِم).
- مسرحيّة قابِيل، حيثُ الإلَه شرٌ مطلقٌ، والشَّيطانُ فيلسوف خَيِّرٌ رَزينٌ.
- دون جوان، قَتْل للبطولةِ والمجدِ الحَرْبِي وأعراف الزواج ومفهوم الشَّرف كمَا فهمَها مجتمعُهُ ذلك الوقْتِ.
كلٌّ تلك الأعمال في نظرِ المجتمع ذلك (الوقت – الآن) هِي مجرّد شرّ محضِ، محاولة لاغتِيال القِيَم التي تربُّوا عليها، ولعلَّك صديقي القارِئ حينَما ترى أسماءَ هذه الأعمالِ وما تَحْويه من دلالات، يأخذُك الحسّ الفنِّي دائمًا وحب الاستطلاع لقراءَتِها، ولعلَّك حينَما تقرأها وأنت العربيُّ الأبيُّ ربَّما تجد فيهَا شيئًا فلسفيًّا عميقًا أو تأويلًا مختلفًا عمَّا أوَّلَه المجتمع ذلك الوقت، ولعلَّك أيضًا تقولُ: لقد كانَ بايرون ثوريًّا وفارس هذَا الزَّمان، وإن فعلتَ ذلك فأنت قد قرأت فنِّيات النصّ، ولم تحاكِم مؤلِّفَه بمعايير قِيَم مجتَمعِه، ولا بمعايير دينية الآن، تمامًا كما فعَلت المؤسسة الغربيِّة الأكاديمية حيث حَلَّلُوا نَفْسِيَّتَهُ المعَقَّدَة، ودَرَسُوا كَيْفَ تَحَوَّلَتْ حَيَاتُهُ الصَّاخِبةُ إلى فَنٍّ خَالِدٍ مُلْهمٍ، وذلكَ يا صدِيقِي القارئ أنَّهم اسْتَخْدَمُوا مِنْظَارَ المؤرِّخ، لا مُدية النَّاقِد الأخْلَاقِي.
بايرون كنموذجٍ للأنا المتعالية
تَحْتَ مظلَّةِ الاختلافات الهائلة في الزمَانِ والمكانِ والثَّقَافَةِ والأعراف والتقاليدِ المجتمعيّةِ، يَكْمُنُ جذرٌ مشتركٌ عميقٌ بينَ أبِي الطَّيبِ وبايرون؛ فكلاهما بَنَى مشروعَهُ الشِّعْريّ حَوْلَ "أنا" متضخِّمَة، مُتَعَالِية، في حَالةِ حَرْبٍ دَائِمَةٍ مَعَ العَالَمِ، والآنَ دَعُونَا لا نَكْتَفِي بِالنَّظَرِ مِنْ بَعِيدٍ، بَلْ نَدْخُل مُبَاشَرةً إلى الحِصْنِ الأكثر إِثَارَةً للجِدَلِ في قَلْعَةِ الأَدَبِ الرُّومَانِسِي.. إلى الشَّاعِر الذي يمثل تلكَ الحالةَ القصوى للتَّمَرُّدِ والغَطْرَسَةِ "لورد بايرون" نفسه.
فإذَا كانَ قَدْ قِيلَ -مُكرَّرًا- إنَّ المتَّنَبِّي يحتَضِنُ "أنَا" مَريضةً داخَل عميقِ روحِهِ، فإنَّ "أنَا" بايرون عدوانيّة لأبعدِ الحدودِ، بل لا تتردّدُ في تحقِير أقرانِهِ من أجْلِ النَّيل من شُخوصِهِم، إذ لم يكتَفِ اللورد بالتمّردِ على قِيمِ مجتمَعِه، بل نصَّبَ نفسَه جلَّادًا على الوسطِ الأدبيِّ في عصرِه، ونجد ذلك في قصيدَتِه "شعراء إنجليز ونقاد اسكتلنديون" حيثُ قام بعمليِّة اغتيالٍ أدبيٍّ جماعيٍّ (مَذْبحة) مستخدمًا الهجاءَ المشَخْصَن بضرواةٍ عاتِية، حيثُ لم يسْلَمْ من لسانِه أعظم شعراء عصرِهِ بِما فِيهم (ويليام ووردزورث - صامويل تايلور)
- سخر من ووردزورث قائلًا إنه: مُلْهِمُ الجِبَالِ ولَكِنَّهُ لا يَكْتُبُ إلا للسُّهُولِ.
- وصفَ صامويل تايلور بأنَّه: نَائِمٌ محترفٌ يتنفسُ الشعرَ عِنْدَما يَغْفُو فَقَطْ.
- قالَ على صديقِه الشاعر روبرت ساوثي إنَّه: مُهَرّج يرتدي جُبَّةَ نَبِيٍّ، ثمَّ وصفَ نفسَه بأنَّه مُزمْجِر العصرِ.
الحقِيقَة الأولَى هذهِ أبيات شعريّة لهَا سياقُها، ودلالتُها داخلَ عصرِها ونصِّها حتَّى لا يتجنَّى عليَّ قارئٌ ويدَّعِي أنني أهاجِمُ الفنَّ الشّْعرِي، الحقيقة الأخرى لَقَدْ أحدثَتْ قصيدَتُه تِلْكَ فَوضَى غير خلَّاقة في السَّاحَة الأدبيّةِ، كأنَّها قصفَتْ جميعَ أركانِها، لم تكُنْ طعنًا في مؤسسةٍ ولا في مدرسةٍ، بل في شُخوصٍ، وأسماءٍ، وطبِاع أصحابِهم المجبولِين بِها، والمفارَقة الصَّادِحة أنَّ هذه الأنَا المريضة لم تُدَنْ أبدًا بِذَلك من قبل المؤسسة الأكاديمية الغربيّة! فلم يعامِلْهُ النُّقاد كخطرٍ أخلاقيٍّ يهدّدُ معايير العصر الإنسانيّة العالميّة، بل عُومِلَ كأسطورة رومانسيّة، بلْ إنَّ حياتَه الشخصيّة الفاجِرة صارَت أقاصِيص أسطوريّة تُروى في السِّير، لا للفَخْرِ بها، أو حذو سيرِها، بل من قبيلِ تحدِّياتِ الإنسانِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.
"I was born for opposition... I would not، if I could، be otherwise than I am. "
"وُلِدْتُ لأكونَ في مُوَاجَهَةٍ دَائِمَةٍ... ولو اسْتَطَعْتُ أَنْ أكُونَ غَيْرَ مَا أنَا عَلِيْهِ، لما فَعَلْتُ"
Lord Byron
لَمْ تكُنْ هذه الأنَا إلَّا للجدَلِ، أنَا لا تبحثُ عن نقاشٍ هادئٍ، بل وجوديّة مستفزِّة للآخَر، تحاول بكل قوّة أن تصرخَ في وجْهِ الجماعِة، أنَا تقولُ (أنَا الأصْل، وأنَا الآخر أيضًا) ورغم ذلكَ صدِيقِي القارِئ لَم تُقم جلساتٌ نقديّة من أجلِ تحجِيمِها، لم تُكتَبْ قراءَات مقارنة من أجْلِ إضعافِها قدّام نموذجٍ آخَر مُهذَّب من خارِج المجتَمع، بل كُتِبَتْ الكُتُب من أجْلِ تأريخِها، وتنْسِيقِ أثرِها.
إذًا نحنُ لَسْنَا أَمَامَ اختلافاتٍ في طَبِيعَةِ الشُّعَراء وطباعِهِم، إنَّنا الآنَ نسْردُ كَيْفِيَّةَ تعاملِ الثَّقَافَاتِ مع الشَّاعِر البَطل أو الشَّاعِر الشيطان، فالغربُ رَفَعَ بايرون إلى مقَامِ الرَّمْزِ الأدَبي، بينما نَحْنُ لا نزالُ نناقش ما إذا كَانَ المتنبي مَرِيضًا بـ"نَرْجَسِيَّةٍ مُزْمِنَةٍ" أو صَاحِبَ رِسَالَةٍ وجوديّةٍ تتجاوزُ عَصْرَه.
فَالْغَرْبُ بِكلِّ أكادِيميَّاتِه لم يجرؤ على إقصاءِ بايرون من مناهِجِهِ الأدبيِّة والسياسيّة والتاريخيّة، على الرغْمِ مِنْ كُلِّ مَا أثَارَهُ مِنْ جَدَلٍ، بَلْ على العَكْسِ تامًا، لَقَدْ رفَعَهُ إلى مصافِ الرُّمُوزِ الثَّقَافيةِ الكبرى، إذ لَمْ تُلغِ الجَامِعَاتُ إِرْثَهُ، ولَمْ تَتَعَامَلْ مَعَهُ كعَارٍ َيجبُ دَفْنُهُ في قُبورِ الهامِشِ، بل احتضنَتْهُ مَادَةً فِكْرِيَّةً لا غِنَى عَنْها لِفَهْمِ تشكُّل الذَّاتِ الغَرْبِيَّةِ الحَدِيثة.
الأكَادِميَّات الغربيَّة لَمْ يَروا فِي تَمَرُّدِهِ وانْعِدامِ إنسانِيَّتِهِ وعِنَادِهِ الأَخْلاقِي واحْتِقَارِهِ للسُّلُطَاتِ الثَّقَافيِّة والدينيةِ، انحرافًا يَجِبُ تَقْوِيمُه، بل طَاقَة أَصِيلَة تُنوِّرُ دَرْبَ الفَرْدِ في البَحْثِ عَنِ الحُرِّيَّةِ والصِّدْقِ الدَّاخِلِي.
لم يَكُنْ بايرون في نَظَرِهِمْ قدوة حسنة، لكنَّهُ كَانَ وثيقةً بَشَرِيَّةً بتناقضَاتِها واضطراباتِها، ومن هنا اسْتَمَدَّ قيمتَه، لذِلَك أقولُ لَكُمْ: إنْ دِرَاسَةَ الانْحِرَافِ أَحْيَانًا، أَصْدَقُ مِنْ مَدِيحِ الطُّهْرِ الزَّائِفِ.
تَشْخِيص الأزْمة - ما بينَ الحداثَة المستورَدة والمنْهَجِ الأصِيل
لِماذَا هذا التناقُضُ الفَجّ؟ تتعاملُ الثقافةُ الغربيّةُ مع شَياطِينِها المبدِعِين بنضجٍ منهجِيٍّ، التَّاريخُ لَه حصَّة، والنَصُّ الفنِّي له حصَّة، ولا خلْطَ، لقَدْ ماتَ المؤلِّف، وبَقِيَ النَّصُّ، بيْنَمَا يُمَارِسُ بَعْضُ نُقَّادِنَا "حداثة مقلَّدة" تَكْتَفِي باسْتِيرَادِ الأحْكَامِ الأخْلَاقِيِّةِ السَّطْحِيةِ وتَتَجَاهَلُ أدواتِ التَّحْلِيلِ العَمِيقَة.
والحقِيقَة أنَّ هذَا النُّوع من النقْدِ لا يسْتَوْرِد عقلَ الحداثَةِ الغربيِّة، بل يستورِدُ قُشورَها، تِلْك الأجِنْدَة الأخلاقيّة الجاهِزة إذ يحاولُ تطبيقَها قسرًا على تُراثِنا الذِي لَمْ ينشأ عَليها، إذْ كيفَ نُحاكِمُ شجرةُ زيتونٍ صحراويّة بقوانِينِ الغاباتِ المطِيرة؛ فنُدِين جفافَ أوراقِها، وصلابة جذوعِها، وقدرَتِها على تحمُّلِ العطَش، غافلِينَ عن أن هذه الصفَّات ليستْ عيوبًا، إنَّها في الحقيقَة بنت بيئتِها القاسية، وتلك مصدر قوَّتِها وسرِّها الأبَديّ! إنَّه ظُلْمُ المعايِيِر، فلا يمكُن بأيَّةِ حالٍ زراعَة رئةِ شحْرورٍ فِي صَدْرِ أسَدٍ ثمَّ ننتَظرُ من الأسَدِ أن يُغنِّي! أتنتَظِرُ من الأسَدِ أن يُغنِّي؟ أقول: لَا.
وإنَّ الأَزْمَةَ الحاصِلة لمْ تقف عندَ حدودِ استيراد المعايير وحْدَهَا، بل تعمَّقَتْ في جُبِّ الفَوضَى، إذ يغيبُ المنهجُ التحليليُّ المتأصّل لصالحِ انفعالٍ لحظيٍّ، وكأنَّ النقدَ قد تحوّلَ إلى محكمةِ تفتيشٍ أخلاقية، لا إلى عقلٍ يشتغلُ على النصوص، ويستنطقُ سياقاتِها، ويُحاورُ الأسئلة الكامنة فيها، فالقراءة النقديّة الجيدة لا تعني تبريرَ الانْحِرَاف الظَّاهِر والمُضْمر في مدلولِ النَّصِّ، لَكِنَّها أيضًا لا تَعْنِي إعدامَ أصحابِ النّصوصِ عَلَى مَشَانِقِ السُّلُوكِ، فلا بدَّ مِنْ إعَادَةِ تَأْسِيسِ المَنْهَجِ، لا على قاعدةِ الإعجابِ أو الإدانةِ، بل عَلَى الوَعْيِ السِّياقِي بالشُّروطِ التَاريخية، وفهم السياقات العامَة والمضمرة، والتمييز ما بين النَّصّ ومؤلِّفِه، فَمِنَ الحدَاثَةِ أَنْ تَكُونَ لديكَ القدرة على بناء وَعْيٍّ مُسْتقَلٍّ، يَأْخُذُ مِنَ الآخَر قدْرَ ما ينفعُ، ويُبقي على ما في الذَّاتِ مِن أصالةٍ، مَهْمَا كَانَتْ جَافةً كَجُذُوعِ الزَّيْتُونِ.


