إبراهيم الدراوي يكتب: الهدنة في غزة.. بوابة ترامب للسلام الاقتصادي بالشرق الأوسط
وجه ويتكوف وكوشنير رسالة حازمة لنتنياهو، بأن واشنطن لن تسمح بتهديد اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، حسبما ذكرت القناة 12 الإسرائيلية منذ قليل.
هذه التصريحات هي رسالة أمريكية واضحة تعكس عمق التحول في منهج إدارة ترامب حيال الشرق الأوسط، إذ لم تعد واشنطن تتعامل مع النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني من زاوية سياسية أو أيديولوجية فحسب، بل من منظور اقتصادي وتجاري ينسجم مع ما يمكن تسميته بـ”عقلية الصفقة” التي تحكم تفكير ترامب وفريقه في إدارة السياسة الخارجية.
فالرسالة الأمريكية في جوهرها لا تتعلق فقط بضبط إيقاع العمليات العسكرية أو الحفاظ على الهدوء في غزة، بل تتصل مباشرة بمسعى واشنطن لتثبيت بيئة مستقرة تمكّنها من توسيع الاتفاقات الإبراهيمية وتحويلها من تطبيع سياسي إلى شبكة مصالح اقتصادية عابرة للحدود.
تُدرك إدارة ترامب أن أي تصعيد عسكري في غزة أو انهيار لوقف إطلاق النار سيعيد المنطقة إلى نقطة التوتر، ويبدد المناخ الذي تسعى واشنطن إلى استثماره في بناء منظومة جديدة من التعاون الاقتصادي بين إسرائيل ودول عربية عدة، خصوصًا الخليجية منها. لذلك، جاءت الرسالة إلى نتنياهو حازمة: الدفاع عن النفس مقبول في حدود ضيقة، لكن أي عمل يهدد الهدنة مرفوض. هذا الخطاب يعكس نظرة الإدارة الأمريكية إلى الشرق الأوسط كـ«سوق مفتوح» أكثر من كونه ساحة صراع أيديولوجي، فالمطلوب هو الحفاظ على استقرار سياسي يسمح بتدفق رؤوس الأموال والمشروعات المشتركة، ويخلق مصالحا متبادلة تجعل الحروب مكلفة وغير مرغوبة.
سلام ترامب لا يمر عبر المفاوضات التقليدية بل شبكة مصالح اقتصادية
كوشنر، بوصفه مهندس الاتفاقات الإبراهيمية وصهر ترامب، وويتكوف، رجل الأعمال المعروف بعلاقاته العقارية الواسعة، ليسا مجرد مبعوثين سياسيين، بل يمثلان نموذج الدبلوماسية الاقتصادية التي تدمج بين رأس المال والسياسة. وجودهما في تل أبيب لإبلاغ نتنياهو بالتحذير الأمريكي ليس حدثًا بروتوكوليا، بل تجسيد لفكرة أن الاستقرار في غزة ضرورة مالية واستثمارية قبل أن يكون ضرورة إنسانية أو سياسية. فمن منظور ترامب وفريقه، تحقيق «السلام» لا يمر عبر المفاوضات التقليدية، بل عبر خلق شبكة من المصالح الاقتصادية تجعل الحرب خيارًا غير مربح. لذلك، فإن الحفاظ على وقف إطلاق النار هو شرط أساسي لتفعيل مشروعات واعدة في مجالات الطاقة، والتكنولوجيا، والموانئ، والممرات التجارية الإقليمية، التي تشكل الامتداد الطبيعي لمفهوم «الصفقة الكبرى» التي طُرحت منذ ورشة البحرين عام 2019 تحت شعار «السلام من أجل الازدهار».
هذا التوجه لا ينفصل عن طموح إدارة ترامب في إعادة صياغة الشرق الأوسط بما يتجاوز المسار الفلسطيني التقليدي، أي تحويل النزاع إلى ملف ثانوي في إطار رؤية أوسع تهدف إلى بناء محور اقتصادي – أمني تقوده إسرائيل وتدعمه دول عربية متحالفة مع واشنطن، في مواجهة النفوذ الإيراني والصيني. لذلك، فإن أي تفجير للهدنة في غزة لا يُنظر إليه فقط كتهديد إنساني أو عسكري، بل كعقبة في طريق «التحالف الاقتصادي الجديد» الذي تطمح واشنطن في ترسيخه.
لكن في المقابل، يظل هذا النهج محاطًا بقدر من الهشاشة، لأن اعتماد السلام على العوائد الاقتصادية وحدها يجعل استقراره مرهونًا باستمرار الأرباح والمصالح، دون معالجة جذرية للأسباب السياسية للصراع. فالهدنة قد تصمد ما دام العائد الاقتصادي قائمًا، لكنها تبقى مهددة إذا تآكلت الثقة أو تعرّض أحد الأطراف لضغط داخلي يعيد إنتاج الشعور بالغبن. ورغم أن ترامب وفريقه نجحوا في تسويق الاتفاقات الإبراهيمية كإنجاز تاريخي، فإن توسيعها يتطلب بيئة إقليمية هادئة، وهو ما يجعل الضغط الأمريكي على نتنياهو جزءًا من خطة استراتيجية أشمل لضمان استقرار السوق لا استقرار السلام فحسب.
وبالنظر إلى شخصية ترامب، يمكن القول إن هذه المقاربة تنبع من إيمانه بأن العلاقات الدولية يمكن أن تُدار كما تُدار الصفقات التجارية: المكاسب مقابل التزامات، والاستقرار مقابل استثمار. لذا فإن الموقف الأمريكي الحاسم من أي عمل إسرائيلي قد يهدد الهدنة في غزة ليس دفاعًا عن الفلسطينيين بقدر ما هو دفاع عن مشروع إقليمي ضخم، يقوم على تحويل «العدو السابق» إلى شريك تجاري، و«منطقة النزاع» إلى منطقة استثمار. إنها مقاربة نفعية بامتياز، تسعى إلى تحويل السياسة إلى اقتصاد، والسلام إلى صفقة، وتهدف قبل كل شيء إلى تثبيت الدور الأمريكي كموزّع للمكاسب في منطقة لم تعرف منذ عقود سوى إدارة الخسائر.


