سباق أمريكي لتقسيم غزة وسط صدام مع روسيا وقلق إسرائيلي متصاعد| تحليل إخباري
تتجمع خيوط سياسية وأمنية معقّدة حول مستقبل قطاع غزة، تكشفها تقارير متزامنة من وسائل إعلام إسرائيلية مثل هآرتس وواي نت وموقع واللا، فبين مشروع تقسيم فعلي للقطاع إلى غزة جديدة شرقيّة تحت إشراف دولي، وغزة قديمة غربيّة مثقلة بالعبء الأمني والإنساني، تعمل الولايات المتحدة على ترسيخ معادلة جديدة تتجاوز دور إسرائيل التقليدي في غزة، في وقت تصعّد فيه روسيا تحديها في مجلس الأمن، ما يفتح الباب أمام اشتباك دولي مباشر حول شكل التسوية المقبلة.
أولًا: مشروع غزة الجديدة.. هندسة أمريكية تتقدم على حساب المؤسسة الأمنية الإسرائيلية
بحسب هآرتس، تسود المؤسسة الأمنية الإسرائيلية حالة من القلق المتزايد إزاء ما تعتبره إقصاءً عن النقاشات الأساسية التي ترسم مستقبل غزة. فبعد شهر على وقف إطلاق النار، يبدو أن الخط الأصفر الذي رُسم كحد مؤقت مرشّح لأن يتحول إلى خط فصل دائم، يقسم القطاع إلى منطقتين:
- غزة الجديدة شرق الخط الأصفر ضمن مشروع إعادة إعمار تشرف عليه شركات تابعة للدول الوسيطة بدعم أمريكي مباشر.
- وغزة القديمة غرب الخط الأصفر، والتي تبقى تحت سيطرة حماس، على أن تتحمل إسرائيل وحدها عبئها الإنساني والأمني.
وتتحدث الصحيفة عن صدمة داخل الأجهزة الأمنية بعد طلب أمريكي - حظي بموافقة نتنياهو - للمباشرة بالمرحلة الأولى من إعادة إعمار رفح والمناطق الشرقية، تمهيدًا لانسحاب الجيش الإسرائيلي منها فور اكتمال الأعمال، ويصف مسؤولون هذا المخطط بأنه قد يصبح أشبه بـ جدار برلين لغزة، يرسم مسارًا طويل الأمد يفصل بين منطقتين تختلفان في الإدارة والواقع الأمني.
في المقابل، تُركت غزة القديمة لإسرائيل بلا أدوات فعلية: لا قدرة على منع وصول المساعدات إلى حماس، ولا تدخل مباشر في الأزمات الإنسانية أو الأمنية التي قد تنفجر داخلها. ويشير ضباط ميدانيون إلى حالة ارتباك بين تعليمات عسكرية تقليدية وأوامر سياسية بخفض التصعيد، بينما تتم القرارات الكبرى خلف أبواب مغلقة بعيدًا عن المؤسسة الأمنية.
ثانيًا: على مستوى مجلس الأمن… واشنطن تدفع نحو قوة تثبيت دولية ومسار دولة فلسطينية
بالتوازي مع ترتيبات “غزة الجديدة”، تعمل واشنطن، كما توضح مسودة كشفتها واي نت، على تمرير مشروع قرار في مجلس الأمن يُنظّم إنشاء قوة تثبيت دولية للقطاع، وتأتي هذه المسودة مبنية على النقاط العشرين لترامب وإعلانه للسلام، لكنها تحمل جديدًا حساسًا بالنسبة لإسرائيل:
- إدراج نص واضح حول إمكانية مسار موثوق لتقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية، بعد إصلاح السلطة وتقدم الإعمار؛
- سحب حق الفيتو من إسرائيل على هوية الدول المشاركة في قوة التثبيت؛
- الاعتراف بـ“إدارة انتقالية” بدل حكومة انتقالية تتوافق مع مجلس السلام الذي طرحه ترامب.
هذه البنود - خصوصًا المتعلقة بالدولة الفلسطينية - تثير قلقًا داخل إسرائيل، لأنها تتقاطع مع المبادرة الفرنسية الأخيرة، وتدفع نحو مسار سياسي لا تملك تل أبيب قدرة التحكم الكامل به.
لكن التطور الأخطر جاء من موسكو، حيث تقدمت روسيا بمسودة بديلة تعرقل التصويت وتعيد صياغة الإطار بالكامل، مستبعدة مجلس السلام الأمريكي، ومشددة على الالتزام بالقانون الدولي، وحل الدولتين، ورفض أي تغيير ديمغرافي أو جغرافي في غزة.
وتعتبر واشنطن أن موسكو تزرع الانقسام وتهدد وقف إطلاق النار الهش، فيما تخشى إسرائيل من أن يؤدي استمرار هذا الاشتباك الدبلوماسي إلى تأخير تشكيل القوة الدولية التي يُفترض أن تخفّف عنها عبء غزة.
ثالثًا: تسريبات واللا تكشف عمق الاشتباك الأمريكي–الروسي.. وأثره المباشر على إسرائيل
تقارير موقع واللا تُظهر صورة أكثر حدّة، إد يصف دبلوماسيون داخل الأمم المتحدة، الوضع بأنه سيتحول إلى فوضى، فالمسودة الروسية جاءت بعد ساعات فقط من تحديث الولايات المتحدة مشروعها، ما اعتُبر محاولة لإفشال خطة السلام الأمريكية للقطاع، بما فيها التفويض لمدة عامين لـ“مجلس السلام” وإدارة المرحلة الانتقالية.
وترى مصادر أممية أن روسيا لا تستهدف فقط واشنطن، بل تضرب في الصميم، تلك التفاهمات التي بنتها الولايات المتحدة مع الدول العربية. وهذا - وفق تصريحات للمسؤولين: “ليس جيدًا لإسرائيل”، ويزيد مخاوفها من أن تصبح مستقبلًا محاصرة بين مشروع أميركي تسعى للتحكم ببنوده، ومعارضة روسية قادرة على تعطيله أو إعادة توجيهه.
غزة بين مشروع تقسيم فعلي وصراع دولي على صياغة التسوية
دمج المعطيات التي تكشفها التقارير الثلاثة يقود إلى صورة مركبة:
- الولايات المتحدة تدفع بقوة نحو صيغة ميدانية غزة الجديدة وأخرى دبلوماسية قوة تثبيت + مسار دولة فلسطينية، من دون منح المؤسسة الأمنية الإسرائيلية الوزن الذي كانت تتمتع به في الملفات الاستراتيجية.
- روسيا تتحرك لتعطيل هذا المسار، ما يعمّق الانقسام داخل مجلس الأمن ويهدد بتجميد الترتيبات الدولية في غزة.
- إسرائيل تجد نفسها بين مشروع أمريكي يتقدم بسرعة وواقع ميداني يزداد تعقيدًا: جزء معاد إعماره شرقًا، وجزء منهك غربًا تحت سيطرة حماس ومسؤوليات إنسانية قد تتحول إلى أزمة مفتوحة.
- ومع تراجع دور الأجهزة الأمنية في صناعة القرار، تتزايد مخاوف تل أبيب من أن تجد نفسها أمام واقع طويل الأمد يعاد فيه رسم القطاع دون مشاركتها الكاملة.
في هذا السياق، تظهر غزة اليوم بوصفها ساحة لإعادة هندسة سياسية وأمنية كبرى، يجري تصميمها بين واشنطن وموسكو والعواصم العربية - بينما تتعامل إسرائيل مع تبعاتها أكثر ما تشارك في صناعتها.


