في ذكرى مولده.. أبي حقيقة عجزت عندها قواميس اللغة
يرى الطفل أباه البطل المغوار، الخارق الذي يملك مفاتيح الأشياء كلها، وعنده تتحطم أصنام الجهل جميعها، ثم يكبر قليلًا، خاصة في أولى مراحل بلوغه، فيبدأ شيئًا فشيئًا يسخط على قرارات والده، ويراه متسلطًا متحكمًا، ثم لا يلبث أن يقول في نفسه، أو يبدها، إن أباه رجل رجعي لا يدرك حجم المتغيرات، ولا واقع الحياة، حتى إذا نضج عمره، واستوى فكره، وأصبح رجلًا يافعًا، أدرك أن أباه قدم له كل ما يملك، وأنه كان، ولا يزال، سنده الأول وملاذه بعد الله، فإذا تزوج وأنجب، ازداد وعيه بأن أحدًا في الدنيا لم يحبه كما أحبّه أبوه.
تلك مراحل طبيعية يمر بها الإنسان في علاقته بوالده، لكنها معي لم تكن كذلك أبدًا.
أما أنا قصتي مع أبي كانت على النقيض تمامًا، فلم تبدلها الأيام، ولم تتقلب مع تقلب المراحل والأعوام، حيث جمعت في ارتباطي به بين البدايات والنهايات معًا.. فلا يزال أبي مذ كنت طفلًا وحتى اليوم بطلي الخارق، وقدوتي، والصخرة التي تتبدل عندها أحزاني فرحًا وسرورًا.. حتى فرحتي بالأشياء لا تكن؛ إلا إذا فرح بها قبلي، فلا أفرح أبدًا إلا بعد فرحه.
الدنيا كلها لا تزن عندي حزنه "ما أقساها حينئذ" وأنا الذي لا يؤلمني شيء مثل ألمه، حتى كل لحظة وجع أو تعب يمر بها، تمنيت أن كانت في ولم تكن فيه.. فإن والله لألمه أسبق لقلبي من جسده.
أبي نعمة عظيمة من نعم الله في هذا الزمان، على كل من يعرفه أو يجاوره، بل وعلى كل رفاقه وزملائه.
هو الذي تكاد لا تشعر بوجوده إلا كما تشعر بنسمة هادئة تمر من حولك، تستنشق عطرها وتأخذ من طيب ريحها.. خفيف الظل، هيّن، لين، قريبٌ من البسطاء، يحبهم ويحبونه، أحسبه ممن ينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن الله حرَّم على النار كل هيّنٍ ليّنٍ قريبٍ من الناس"
أبي نعمة لا تسعها الدنيا، ولا تضاهيها الحياة بكل ما فيها من زينةٍ ونعيم، لا شيء يسبقه دون الجنة، ولا للجنة لذة دونه.
الحقيقة التي أود أن أعترف بها، أني منذ بدأت رحلتي مع الكتابة كهاوٍ، ثم ممتهن، لمدة بلغت 13 عامًا، وأنا أبحث في قواميس اللغة عن كلمات تعبر بشكلٍ حقيقي وصادق عن حبي لأبي، ظنًا مني أني سأجد ضالتي بين مفردات البلاغة ومجامع اللغة.. لكني لم أجدها حتى اليوم وسط كل هذا الكم من أنهار الكلمات وبحور المفردات.
إن يوم الـ17 من نوفمبر قد يراه الناس يومًا عاديًا، لكنه عندي لا يمكن أن يكون كذلك أبدًا، فله من القداسة ما يليق بصاحبه، ومن الجلال ما يبلغ قدره، ومن القدر ما يرفعه إلى عنان السماء.. لم لا، وفيه وُلد أبي، ذلك الرجل الذي رغم تقصيري وعقوقي، ورغم أني كبرت، وبلغت مبلغ المسؤولية عنه، لا أملك أن أقدم له من الدنيا سوى أني أحبه بصدقٍ، وأن أخبره بذلك أمامكم وأمام الدنيا بأسرها، وأنه دنياي ومفتاح آخرتي، ومعلمي وقدوتي، وأن شوقي كان يتكلم بلسان حالي حين قال:
"يا مَن عشـْـتَ دهرَك تجني الهمَّ والنّصَـبا
سأنظم الشعر مدحًا فيكَ منطلِـقًا
يجاوز البدرَ والأفلاكَ والشّهُبا
إن غاضَ حِبري بأرض الشّعر وا لهفي!
ما غاض نبعُ الوفا في القلب أو نضبا
قالوا: تعالَ، فمَن تعني بشعرك ذا؟
فقلت: أعني أبي، أنعِمْ بذاك أبا"
كل عام أبي الخير كله، كل عام هو نور دنيانا، وبدر سمانا، وربيع أيامنا، وتاج رؤوسنا، ومصدر عزنا وفخرنا.. عيد ميلاد سعيد، أبي الحبيب.



