محمد شقرة يكتب: منى زكي.. يكشّ يعرفوا تاريخ الست!
بعد عرض الفيلم مباشرة، التقطت أذني تعليقًا عفويًا من أحد الحضور قال فيه: الفيلم حلو أوي يكشّ الأجيال الجديدة تعرف مين هي أم كلثوم وتعرف تاريخ الست.
الجملة دي لم تكن مجرد مديح سطحي، بل كشفت جوهر التجربة السينمائية؛ أن الفيلم لا يكتفي بسرد السيرة، بل يسعى لإعادة بناء الأسطورة من منظور إنساني ونفسي، ليجعل المشاهد يعيش كل لحظة من صعود الست وسقوطها ونضالها، ويشعر بثقل القرارات والصعوبات التي واجهتها، كما لو كان يشاركها الألم والأمل.
منى زكي هنا لا تقدّم شخصية بل تُعيد خلقها؛ في كل حركة، نظرة، وصمت، هناك دراسة عميقة لطبقات الشخصية، بين قوة الإرادة والهشاشة الإنسانية، بين الشهرة والمسؤولية الاجتماعية، بين الصوت كأداة للتعبير والصوت كحالة وجودية، أداؤها يجعل المشاهد يفهم أن أم كلثوم لم تكن مجرد فنانة، بل امرأة عاشت صراعًا داخليًا ومجتمعيًا، وصوّرت منى هذا الصراع بشكل يجعل الشخصية أكثر قربًا وواقعية من أي سيرة موسيقية تقليدية.
مروان حامد استخدم الأبيض والأسود ليس كتقنية جمالية فقط، بل كلغة لإعادة الزمن وتحديد أبعاد الواقع النفسي والتاريخي. المشاهد بالأبيض والأسود تحمل القسوة، الذاكرة، الصمت، أما الألوان فهي لحظة الحاضر والانتصار، المزج بينهما يجعل المشاهد يشعر بتناوب الوعي بين الماضي والحاضر، وكأن كل لقطة تحاكي الذاكرة الجمعية والثقافة الشعبية في الوقت نفسه، دون أن يفقد الفيلم إيقاعه الدرامي.
أحمد مراد في كتابته أضاف بعدًا فلسفيًا وتاريخيًا، بتقسيمه حياة الست إلى محطات إنسانية ثلاث: طفولة معاناة، مواجهة المرض، ونضال وطني. كل محطة لا تُسرد فقط، بل تُحلّل وتُفسر وتُربط بسياق اجتماعي وسياسي، لتصبح شخصية أم كلثوم رمزًا للمقاومة والموهبة والصمود. النص هنا يعكس فهمًا عميقًا لتاريخ مصر، والقيود المجتمعية على المرأة، وكيف استطاعت شخصية الست أن تتجاوز كل ذلك بالصوت والموهبة والإرادة.
مشهد أولمبياد باريس يعكس عبقرية الفيلم في المزج بين الفكرة الوطنية والبعد العالمي؛ الجمهور من كل أنحاء العالم يهتف بصوت واحد: “سوما سوما سوما”، لتتضح مكانة الست كرمز عالمي، لا مجرد فنانة عربية، وهو ما يجعل الفيلم ليس مجرد توثيق تاريخي، بل مشروع ثقافي لإعادة تعريف الهوية الفنية أمام العالم.
المواجهة مع مدير المسرح، حين قال لها: مينفعش نكون طرف، ثم التزمت الصمت قبل أن يوافق في النهاية، لا تُظهر فقط قوة الشخصية، بل تعكس فلسفة الفيلم في إبراز استقلالية الفنانة، ووعيها بمكانتها ومسؤوليتها الأخلاقية أمام تاريخها وفنها، وكأن كل قرار في حياتها كان يحمل ثقلًا وجوديًا.
العودة عبر فلاش باك إلى طفولتها، مشهد الطفلة التي تمشي بلا حذاء وتسافر بالقطار، يمنح الفيلم عمقًا نفسيًا واجتماعيًا؛ يربط بين الفرد والبيئة، بين الماضي والحاضر، بين الطموح والواقع، ليصبح الفيلم أكثر من مجرد حكاية حياة، بل دراسة اجتماعية ونفسية لمجتمع كامل عبر شخصية واحدة.
ومع بداية أغنية “إنت عمري”، يصل الفيلم إلى ذروة فنية وعاطفية؛ الغناء هنا يصبح تجربة وجودية، حيث تتلاقى الذكريات مع اللحظة الراهنة، والموسيقى تتحول إلى أداة لفهم الذات وللتعبير عن النضج والصمود، لتصبح الشاشة مساحة حية لتجربة متكاملة بين الصوت والدراما، بين التاريخ والفن.
المشهد الختامي للفيلم، الذي يصور جنازة أم كلثوم، يمثل لحظة مؤثرة وعميقة في العمل. منى زكي، التي قامت بتجسيد الشخصية، قدمت أداءً استثنائيًا تمكن من نقل روح وأحاسيس أم كلثوم بكل دقة وصدق، حتى شعر الجمهور وكأنهم عاشوا معها رحلة حياتها بالكامل، من بداياتها الفنية حتى لحظة رحيلها. ومن اللافت أن منى زكي تعرضت قبل عرض الفيلم لموجة من الانتقادات، إلا أن هذا المشهد أكد قوة أدائها وأظهر أن المنتقدين أخطأوا في حكمهم، إذ قدمت تجربة فنية وإنسانية عميقة تركت أثرًا واضحًا لدى كل من شاهد الفيلم.
في النهاية، فيلم “الست” تجربة سينمائية عميقة، تجمع بين الأداء التمثيلي المتقن، الإخراج المبتكر، والنص الواعي تاريخيًا ونفسيًا؛ تجربة تعيد تعريف أم كلثوم للأجيال الجديدة، وتمنح المشاهد إحساسًا بالزمن، الثقافة، والإنسانية، لتصبح منى زكي بهذا الدور ليست مجرد ممثلة، بل رمزًا حيًا لإعادة تفسير الأسطورة.


