الجمعة 19 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

مصطفى سليم يكتب: العقاد والرافعى خصومة على صفيح ساخن

خصومة الرافعي والعقاد
تقارير وتحقيقات
خصومة الرافعي والعقاد
الخميس 18/ديسمبر/2025 - 06:28 م

لعل تاريخ المعارك الأدبية فى القرن العشرين لم يشهد خصومة على هذه الدرجة من العنف النقدى كتلك التى دارت بين العقاد والرافعى، إذ تعددت فصول السجال بينهما وامتدت إلى ربع قرن، بالنظر إلى بدايتها عام 1914 ونهايتها بالكلمة الأخيرة التى أوردها العقاد فى "الرسالة" عام 1940، هذا مع استثناء ما استدركه تلامذتهم عن الخصومة فى زمن متأخر.

ومع أن ثمة فترات من الهدنة سادت بينهما طوال هذه المدة، فإن كليهما كان يتربص بالآخر، وما إنْ يتناول أحدهما القلم بحق خصمه يتجدد السجال وتمتد صفحاته على وجوه الصحف، حتى بعدما انقطعت أسباب العداوة بين الخصمين برحيل الرافعى عام 1937، فإن ثمة معركة تشكلت بين أنصارهما دامت ثمانية أشهر.

بمرور الأيام لم يكن مقدرًا لهذه الخصومة أن تنتهى، إذ كان القراء على موعد مع إعلان صاحب "الرسالة" أحمد حسن الزيات شهادة الرافعى فى حق العقاد تبرأ فيها الأول مما ذكره عن الأخير فى السفود، فعقّب العقاد بمقال انتقد خلاله "حرص الرافعى على كتمان الشهادة بحقه"، وأكد أحكامه السابقة فى أدب الرافعى.

اتسمت الخصومة بين العقاد والرافعى بتجدد جولاتها، وتنوع مسائله، وبعثرة تفاصيله فى بطون الكتب، التى اختزلها البعض ووجها الآخر، وهو ما نسعى إلى الإحاطة به لنرصد المروية الكاملة للخصومة.

وقبل أن نبدأ، نود الإشارة إلى أن نقاد ومؤرخى الأدب أجمعوا على أن الخصومة التى دارت بين العقاد والرافعى من أعنف المعارك الأدبية التى خاضها العقاد فى حياته، بل وفى ميدان الأدب كافة خلال ذلك الزمان، فوفق طائفة، فإن تاريخ الخصومة بينهما يعود إلى عام 1911 حينما كان العقاد يكتب فى مجلة البيان، وكان الرافعى محررها الأول، وصاحب الرأى فى نشر، واختصار وحذف ما يشاء من الموضوعات، ومن بينهم بالطبع ما كان يكتبه العقاد، من هنا بدأ بينهما خلافٌ لم تعرف الثقافة العربية لمثله نظير  إلى هذا الحد من التهكم والسخرية الجارحة،  (سامح كريم: العقاد فى معاركه الأدبية والفكرية: 97)

فيما يرجع آخرون، بينهم سعيد العريان، تاريخ الخصومة إلى عام 1926؛ إذ "لم يكن بين الرافعى والعقاد قبل إصدار الطبعة الملكية من (إعجاز القرآن) غير الصفاء والود، فلما صدر هذا الكتاب فى طبعته الجديدة أحدث بينهما شيئًا كان هو أول الخصام"، وهو ما نفاه عامر العقاد، (حياة الرافعي: 185، ومعارك العقاد الأدبية، 7: 11).

 

جولات الخصومة 

 

اشتعل فتيل الخلاف بمقال للعقاد جاء تحت عنوان "فائدة من أفكوهة" نُشر على صفحات جريدة المؤيد عام 1914، وخلاله انتقد كتاب "تاريخ آداب العرب" للرافعى، ودار حول اضطراب القياس عند الرافعى، وأنهاه العقاد بالقول "إن الرافعى منشئ مكين، يُحسّ اضطراب القياس لديه، ويُعمل القلم ولا يُعمل الرأى، لأنه لا يستطيع أن يصنع غير ذلك، ومن هنا فإن كتابه (تاريخ آداب العرب) كتاب أدب لا تاريخ أدب؛ لأن البحث فى هذا الفن يتطلب من المنطق ما يتطلبه الرافعى نفسه"، (معارك العقاد الأدبية: 8 و9). 

فى عام 1921 أصدر العقاد مع رفيقه المازنى كتاب "الديوان فى الأدب والنقد"  فى جزءين صغيرين،  كان لهما دوى جعل منهما فى زمن لاحق "وثيقة من أهم وثائق النقد العربى الحديث، ومَعلمًا من معالم التطور الأدبى فى مصر"، فعبر صفحات "الديوان" سعى المؤلفان إلى قيادة ثورة أدبية على الجيل القديم، ورأى المؤلفان أن الشعر والأدب فى عصرهما لا يمثلهما شعر شوقى ولا نثر المنفلوطى، وأسسا مدرسة أدبية جديدة سميت "مدرسة الديوان" نسبة لعنوان كتابهما، ودعيا إلى التجديد فى شكل الشعر ومضمونه وبنائه ولغته،  (العقاد والمازنى، الديوان فى الأدب والنقد، تقديم د.ماهر شفيق فريد، صـ7).

بعدها قدَّم الرافعى نقدًا لأمير الشعراء أحمد شوقى فى ديسمبر من العام ذاته، ورأى العقاد أن الرافعى أعاد خلاله صياغة بعض  المسائل التى أوردها فى  نقد النشيد القومى الذى نظمه شوقى، دون الإشارة إلى ما سجله العقاد فى الجزء الأول من الديوان، ولا إلى كلمة يستشف منها أن أحدًا تقدمه إلى هذا النقد، فاختصه العقاد بمقال عنيف جاء تحت عنوان "ما هذا يا أبا عمرو؟!" واتهمه خلاله بأنه سرق أفكاره، وانتهب الذخيرة النقدية التى أوردها فى كتاب (الديوان)، ولم يدع وجهًا من أوجه النقد التى أتى بها إلا انتزعها وسددها وفاته أن القذيفة لا يرمى بها مرتين، وهي مسألة رد عليها الرافعى بالنفى، (العقاد والمازنى، الديوان فى الأدب والنقد: 241).

وكان مما ذكره العقاد فى مقاله، "هذا رجل لا يستحى أن يُسمى نفسه على غلاف رسالته (بنابغة كتاب العربية وزهرة شعرائها)، يعمد إلى نقد مطبوع لم يفرغ الحديث فيه، ولم ينقطع صاحبه عن إتمامه فينتحله جملةً، ولا يفلت منه كبيرةً ولا صغيرةً...، كأننا حين كتبنا نقدنا فى مصر كان هو يكتب رسالته من أقاصى الصين أو أطراف السويد".

ليختتم المقال بالقول، "يا خفايش الأدب: أغثيتم نفوسنا أغثى الله نفوسكم الضئيلة. لا هوادة بعد اليوم. السوط فى اليد وجلودكم لمثل هذا السوط خُلقت. وسنفرع لكم أيها الثقلان، فأكثروا من مساوئكم فإنكم بهذه المساوئ تعملون للأدب والحقيقة أضعاف ما عملت لها حسناتكم، إن كانت لكم حسنة يحسبها الأدب والحقيقة".

 

بين الدين والسياسة 

 

كل ما جرى بين العقاد والرافعى إلى الآن فى وادٍ، وما سيدور  بعدما أصدر الرافعى، الجزء الثانى من "تاريخ آداب العرب" فى وادٍ ثانٍ، إذ حمل عام 1926 نبأ صدور كتاب "إعجاز القرآن" للرافعى فتناوله العقاد بالنقد، ونال من الرافعى بالقول، إن الكتاب "ليس فيه شاهد واحد على معجزات الكلام، ولا هو نهج فيه ذلك المنهج الذى أحسن فيه الإمام عبدالقاهر الجُرجانى أيّما إحسان، وأفاد فيه الآداب العربية أيّما إفادة، فإنما الثناء على القرآن فى كتاب تناهز صفحاته الأربعمائة، حسنةٌ طيبة يُكتب للرافعى أجرها وثوابها عند الله، ولكنها لا تُكتب له فى سجل المباحث والعلوم، ولا تعد من حسنات التفكير والاستقراء"، (العقاد، ساعات بين الكتب: ـ22).

فيما سعى الرافعى وتلامذته على ترويج أن مآخذ العقاد جاءت بدوافع شخصية وغيرةً منه بعد صدور الكتاب بمديح من  زعيم حزب الوفد سعد زغلول بعبارة  "كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم"، (حياة الرافعى، 183:188).   

حديث  الرافعى وأنصاره عن حقد العقاد على شهرة الرافعى به نظر، فقد كان للعقاد آنذاك منزلةٌ كبيرة كأحدأكبر كتاب الوفد فى نفس سعد  الذى احترم  بدوره الرافعى وأثنى على كتابه، كما أنه يتعارض مع ما كانت عليه "شهرة العقاد يومذاك، إذ بلغ صداها الآفاق، وملأ اسمه دنيا السياسة والأدب،  (معارك العقاد الأدبية: 13).

زادت حدة  الكيد والخصومة بينهما، فأعلن العقاد أن عبارة سعد عن الكتاب التى يتشدق بها الرافعى ويفتحر بها لم تصدر عنه، وإنما الرافعى هو خالقها ومزورها ليصدّر بها كتابه فيروج عند الشعب، وهى "تهمة شنيعة"أثارت غضب الرافعى، ونفاها تلميذه سعيد العريان، لكن الرافعى بدوره أشاع أن دافع العقاد فى نقده لم يكن لشخصه ولا لكتابه بقدر  ما كان حديثه عن القرآن نفسه وعن إعجازه وإيمانه بهذا الإعجاز، واتهمه "بأنه لا يعتقد بالقرآن ولا بالنبوة ولا بالوحي"، وفقما جاء فى كتاب "رسائل الرافعي"، ولعل هذا ما دعا العقاد للرد عليه فى سياق آخر، "انتقدنا حامى القرآن، حمى الله منه القرآن ولغة القرآن"، (محمود أبورية، رسائل الرافعي: 157، وأنور الجندى، المعارك الأدبية فى مصر: 575).

 

على صفيح ساخن

 

توعد الرافعى العقاد بأنه “سيكيل له بالكيل ثلاثة مكاييل" وهو ما قد جرى بالفعل، ففى الأول من يوليو من عام 1929، شرعت مجلة "العصور"  فى نشر أول مقالات الرافعى عن العقاد، والتى كان عنوانها  "على السفود"، وتعنى  لغة "عودًا من حديد ينظم فيه اللحم ليشوى"، فيما كان هدفها الذى أعلنه "شواء  لحم العقاد على السيخ"، ومع هذا لم يوقع الرافعى المقالات باسمه وإن دلّ أسلوبه عليه، وفقما جاء فى رسائله.

يذكر مؤلف "حياة الرافعى" أن كتاب "على السفود" جاء بتحريض من صاحب "العصور"  إسماعيل مظهر للرافعى، فبينما فرغ الأخير  لتوه من مقالاته فى نقد الشاعر عبدالله عفيفى تحت العنوان ذاته، كان لا يزال فى نفسه شيء من العقاد، فقرر فتح النار عليه، "وكتب مقاله الأول من كتاب على السفود فى نقد العقاد، وتوالت مقالاته من بعد فى أعداد المجلة متتابعة كل شهر، فلما تمت هذه المقالات، نشرها إسماعيل مظهر فى كتاب قدم له، وأوضح فى مقدمته ما دفعه إلى نشر الكتاب الذى لم يكتب على غلافه اسم مؤلفه، ورمز إليه بوصف "بقلم إمام من أئمة الأدب العربى"، تجنبًا للمساءلة القانونية من قبل حكومة الوفد الحاكمة آنذاك، والذى كان العقاد كاتبها الأول، وفقما أوضح الرافعى.

اتسمت المقالات السبعة للرافعى بالطعن الفاحش، وكانت غاية فى العنف والنزول عن محتوى النقد، بإجماع النقاد وتلامذة الرافعى نفسه، بينهم سعيد العريان الذى وصفها بـ"الخصومة العنيفة التى تجاوزت ميدانها إلى ميادين أخرى، جعلت من كلا الأديبين ينسى مكانه، ويُغفل أدبه ليـــــَلــــــــغَ فى عِرض صاحبه، ويأكل لحمه من غير أن يتذمّم، أو يرى فى ذلك معابة، وكان البادئ بإعلان هذه الحرب هو الرافعى فى مقالاته على السفود"، التى نشرت فى كتاب عام 1930 وعنه قال العريان أيضًا، "والحق الذى أعتقده أن فى هذا الكتاب، على ما فيه، نموذجًا فى النقد يدل على نفاذ الفكر، ودقة النظر، وسعة الإحاطة، وقوة البصر بالعربية وأساليبها، ولكن فيه مع ذلك شيئًا خليقًا بأن يطمس كل ما فيه من معالم الجمال، فلا يبدو منه إلا  أذمّ  الصور، وأقبح الألوان، بما فيه من هجر القول ومر الهجاء". (حياة الرافعى، 192:189).

 

بينما دافع الرافعى عن هذا التطاول بالقول فى رسائله لصديقه محمود أبورية، "إن العقاد  الآن فى رأى نفسه ورأى كثير ين جبار الكتابة، ونحن نريد أن نضع أنف هذا الجبار فى الأرض مقدار ساعتين على الأقل! لأنه لم يتجرأ علية أحد إلى الآن. والذين كتبوا عنه لم ينالوا منه نيلًا"، وإن تناقضت آراؤه عن العقاد فى أحاديثه الخاصة بين أصدقائه عما كان يجهر به فى العلن، (مجلة الرسالة أعداد 254، و358، و361).

وحسبك أن تطالع عناوين ومداخل المقالات السبعة للكتاب لتدرك مدى القسوة التى كتب بها الرافعى كتابه الذى استهله بالقول،  "أما بعد فإنا نكشف فى هذه المقالات عن غرور ملفّق، ودعوى مغطاة، وننتقد فيها الكاتب الشاعر الفيلسوف !! ( عباس محمود العقاد ) وما إياه أردنا ولا بخاصته نعبأ، ولكن لمن حوله نكشفه، ولفائدة هؤلاء عرضنا له، والرجل فى الأدب كورقة البنك المزوّرة". (على السفود: 13).

يتابع الرافعى، "قد يكون العقاد أستاذًا عظيمًا ونابغةً عبقريًا، وجبار ذهن كما يصفون، ولكنا لا نعرف فيه شيئًا من هذا، وما قلنا فى الرجل إلا ما يقول فيه کلامه، وإنما ترجمنا حكم هذا الكلام ونقلناه من لغة الأغلاط والسرقات والحماقات إلى لغة النقد، وبيناه كما هو. لم نبعد، ولم نتعسف، ولم نتمحل فى شيء مما بنينا عليه النقد".

يواصل، "والعقاد وإن زوّر شأنه، وادعى، وتكذّب، واغتر، ومشى أمره فى ضعفاء الناس بالتنطيع والتلفيق والإيهام، فإن حقيقته صريحة لن تزوّر،وغلطاته ظاهرة تدّعى، وسرقاته مكشوفة لن تلفق، وما زدنا على أن قلنا هذا، فأن يغضب الأسود على من يصف سواده فليغضب قبل ذلك على وجهه".

 

مع أمير الشعراء وضده

 

على أية حال، توقفت المعركة بين العقاد والرافعى عند حد السَّفود، وصمت الخصمان طويلًا وكل منهما يتربص بخصمه، وفى أكتوبر من عام 1932 رحل أمير الشعراء أحمد شوقى، وكتب الرافعى على عجل دراسة عن شوقى لم يكن مستعدًا لها، ورغم أنه أنصف شوقى وكشف عن أدبه ومذهبه، لكنه سقط فى مأخذ نحوى عدّه خطأً على شوقى فيما لم يكن كذلك، ورغم عداوة العقاد المعروفة للقاصى والدانى مع شوقى فإنه تناول قلمه وكتب ردًّا على الرافعى، وكان له من التوفيق نصيب فيما كتب، وبدلًا من أن يعترف الرافعى بالخطأ تملكه عناده وكبرياؤه وخوفه من الهزيمة أمام العقاد، فأنشأ مقالة طويلة يرد بها رأى العقاد، ويصر على تخطئة شوقى، بل ويتهم المتأخرين من علماء النحو على غير قناعة منه بالغفلة، وقلة التبصر بأساليب العربية، ومع هذا انتهت المعركة دون أشلاء تذكر فيما بينهما،  وإن بقى فى نفس الرافعى شيء جعله يترقب المعركة المقبلة، (حياة الرافعى، 193: 196).

 

"وحى الأربعين"

 

يخبرنا سعيد العريان أن "الهدنة بين الخصمين استمرت بضعة أشهر، وبحلول عام 1933 أصدر العقاد ديوانه (وحى الأربعين) لينتهز الرافعى الفرصة السانحة، ويجدد هجومه عليه بمقال نشر فى صحيفة (البلاغ)، شغل ثلاث صفحات بنقد مرّ، اجتمع فيه ثورة نفسه، وحدة طبعه، وحرارة بغضائه، وأعاد إلى الأذهان أسلوبه فيما كتبه فى سَفوده من قبل؛ لتُدق أجراس الإنذار، وتتجدد المعركة بينه وبين العقاد الذى رد عليه بمقال على صفحات الجهاد، جاء تحت عنوان (أصنام الأدب) وخلاله وصف الرافعى بـ(المهذار الأصم)، وجاءه من حيث لم يحتسب فزج به فى أتون السياسة بتهمة وطنية، أشار  فيها إلى أن الرافعى "لم يكن لينتقده إلا لأنه العقاد السياسى الوفدى عدو حكومة صدقى المتسلطة على الناس بالحديد والنار، فيما الرافعى يطبع كتبه على نفقة الخاصة الملكية، ويعلّم أبناءه كذلك على نفقتها فى إشارة إلى الصلة التى انعقدت بين الرافعى والإبراشى باشا". 

يواصل العريان، و"يا لها من تهمة حين يقولها العقاد وهو يومئذ كاتب الوفد الأول بمقالاته التى يتلقفها القراء بلهفة وشوق لا فى كل مدينة، بل فى كل قرية، وهو عند هؤلاء وأولئك سيد الكتاب وأمير الشعراء الذى ما إن يعاديه أحد إلا وكان عدوًا للأمة، ولا يتعرض له أحد بالنقد إلا كان فى رأى الشعب (دسيسة وطنية) استنادًا إلى مكانة  حزب (الوفد) وصحيفته التى كانت تمثل صوت الشعب، وتتبنى مواقف وطنية ضد القصر والاحتلال البريطانى آنذاك، ولم يفت العقاد يومذاك أن يصفى حساباته القديمة فنال من إسماعيل مظهر صاحب صحيفة "العصور" الذى أغرى الرافعى بالهجوم عليه كما أنه ناشر  كتاب (على السفود) ومروجه"، (حياة الرافعى، 196: 206).

 

"أحمق الدولة"

 

بحلول عام 1935 تقلبت السياسة المصرية تقلباتها؛ فإذا بالعقاد خارج الوفد، فوجدها الرافعى فرصة سانحة للانتقام وليستخدم السياسة فى النيل من خصمه فى الأدب فيكيل له صاعًا بصاع، ويحاربه بمثل سلاحه الذى  باغته به من قبل، وأفقده شعبيته بين الجماهير، فكتب مقالًا غير موقّعٍ فى "كوكب الشرق" جعل عنوانه "أحمق الدولة"، ثم أعقبه بمقال فى "الرسالة" جاء تحت عنوان "كلمة وكليمة"عرّض فيه أيضا بالعقاد تعريضًا أليمًا.

ويذكر سعيد العريان، أنه "لم تكن تسنح للرافعى سانحة لغيظ العقاد إلا انتهزها، فما كتب الرافعى عن شاعر من الشعراء إلا وجعل نصف مقاله تعريضًا بشعر العقاد"، فعلق العقاد بمقال "المنكوب المطموس"، وأورد فيه قوله، "مصطفى صادق الرافعى رجل عامى من فرعه إلى قدمه أو من قدمه إلى فرعه، يظن كما يظن كل عامى أن المناقشة هى أن يغلب، وأن علامة الغلب أن يظل يتكلم ويتكلم" إلى أن يقول مخاطبا إياه "يا هذا، عندى ما يشغلنى عن ضغينة نفسك الصغيرة، فاذهب إلى عالم الأشباح الذى ألقيت بك فيه منذ سنوات"، (عامر العقاد، معارك العقاد الأدبية: 16).

 

حكم أفسدته الخصومة 

 

“كان خصوم العقاد يتهمونه بتهم يعلمون قبل غيرهم أنه منزه عنها، وعلى الرغم من أنهم يعلمون مقدمًا براءته مما يقولونه، فإنهم كانوا يصرون عليها بين آونة وأخرى، لا لسبب إلا لأن العقاد كان من العنف فى معاركه بحيث يجعل خصومه لا يدخرون سلاحًا للهجوم عليه، وهو ما حدث مع كثير ين فى صفوف الأدب والسياسة، بينهم رجاء النقاش، وإبراهيم الوردانى، وغيرهما"، (معارك العقاد الأدبية:  6 و7).

بل إن رأى الرافعى عن العقاد فى العلن كان يتناقض مع شهادته عنه سرًّا بين أصدقائه وخاصته، ففى عام 1940، نشر أحمد حسن الزيات فى ذكرى وفاة الرافعى الثالثة، مقالًا فى الرسالة تضمَّن حديثًا خاصًا دار بينهما عن حقيقة رأى الرافعى فى خصميه العظيمين طه والعقاد، ولم يمانع الرافعى نشر الرأى وإن رفض كتابته.

وفيه ذكر الرافعى للزيات، "أما ما كتبه (على السفود) فأكثره رجس من عمل الشيطان"، "وأما العقاد فإنى أكرهه، وأحترمه، أكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه، وأحترمه لأنه أديب قد استملك أداة الأدب، وباحث قد استكمل عدة البحث، قصر عمره وجهده على القراءة والكتابة، فلا ينفك بين كتاب وقلم، أما أسلوب العقاد فهو أسلوب الأديب الحكيم، تبرز فيه الفكرة الدقيقة فى مجتلى الفن الرفيع، فيجمع بقوة تفكيره ودقة تعبيره طرفى البلاغة، والعقاد مخلصٌ لفنه، فلا يُخرِج للناس ما لا يرضاه، فهو لذلك أبعد الأدباء عن استغلال شهرته، واستخدام إمضائه"، (الزيات، الرسالة، عدد 358).

وقد عقب العقاد على ما أورده الزيات فى "الرسالة" بمقال جاء تحت عنوان "الخصومة الأدبية فى الشرق"، وخلاله أوضح نهج المصداقية الذى يتخذه تجاه خصومه فى السر والعلن، وهو ما أخذه على الرافعى الذى كان يقول عنه أحيانا غير ما يكتب، واستشهد بقوله، "روى ذلك الأديب محمد السباعى، ورواه البرقوقى صاحب البيان، وكل فى جملته يوافق ما رواه الزيات فى مقال الرسالة؛ ومنه حِرص الرافعى على كتمان هذه الشهادة!، (الرسالة، عدد 361).

بعدها أتى على ما أورده عن الرافعى وأدبه، وذكر، "إننى كتبت عنه مرات أن له أسلوبًا جزلًا، وأن له صفحات من بلاغة الإنشاء تُسلكه فى الطبقة الأولى من كتاب العربية المنشئين. وقلت إلى جانب ذلك إننى أنكر عليه فلسفة البحث وصحة المنطق ودقة القياس. فهل كان فى وسعى أن أرى فى أدب الرافعى غير هذا الرأى أو أشهد له غير هذه الشهادة؟ كان فى وسعى نعم أن أقولها بلهجة غير التى كتب بها عنى، وكتبت بها عنه، ولكن هل كان فى وسعى بعد قراءة أرسطو وأفلاطون وابن سينا وكانط وشوبنهور وهيوم أن أحسب الرافعى من كبار المناطقة مع حسبانى إياه من كبار المنشئين؟".

"هبنا توافينا على المودة ولم نفترق فى الخصومة؛ فهل كنت أستطيع أن أسيغ القضايا المنطقية التى كان رحمه الله يستكثر منها، ويمعن فى الاتكاء عليها، وهى لا تحتمل الاتكاء؟فأنا قد شهدت له بالبلاغة الإنشائية وأنكرت عليه الفلسفة المنطقية، لأننى أستطيع أن أسلكه مع الجاحظ وعبد الحميد، ولا أستطيع أن أسلكه مع كانط وابن سينا وهيوم، ومن الذى يستطيع غير ذلك ولو كان من أصدق الأصدقاء؟ بل مَن الذى يستطيع أن يدحض الأمثلة التى ذكرتها ورددت إليها إنكارى عليه ملكة البحث الفلسفى والمنطق الصحيح". 

بعدها برهن العقاد على ما ذكره بمثالين، ثم عاد فأكد قوله "والذى قلته فى أدب الرافعى هو الذى اعتقدته، بل هو الذى لا أقدر على اعتقاد رأى غيره...، والذى قلته فى قياس الرافعى لا يقدر الصديق على أن ينفيه أو يقول بنقيضه إلا أن تكون الصداقة على غير الحق والإنصاف. ولو قنع منى الرافعى بأن أشهد له بالبلاغة، وأن أنقد قياسه وبحثه لما كانت خصومة ولا كان جدال، ولكنه اعتد رأيى فيه تجاهلًا وقلة إنصاف، وزاد فاعتده من العداوة، ورصد له ما يرصد للأعداء، وهذا هو أصل الخلاف".

ليختتم المقال بالقول، "وبعد، فالخصومة الأدبية لها مذهبان: مذهب الإيمان بالفضل وإخفائه عن عمد، ومذهب الرأى الذى يتفق عليه الأصدقاء والخصوم وإن اختلفا فى لهجة الأداء وعبارة الثناء، وهذا هو مذهبنا الذى ندين به، ويجرى عليه فى كل حال ما اختصمنا فيه، وعلى الذين يرموننا بقلة الإنصاف أن يرونا مبلغ إنصافهم لنا، إن كانوا منصفين".

تابع مواقعنا