ضمير طبيب أنقذ حياة زوجتي.. ورعونة أخرى كادت تُنهيها
كنا وكانوا وكنت واحدًا منهم حين تُذكر مهنة الطب يتبادر إلى الذاكرة فورًا مزيج نادر من العلم والرحمة والإنسانية مهنة لا تُمارَس باليد وحدها بل بالقلب قبل السماعة وبالضمير قبل الوصفة والروشتة.. هكذا تربّينا وهكذا ظل الاعتقاد راسخًا في وعينا الجمعي الطبيب هو طوق النجاة في لحظة الخطر ومُنقذ الحياة حين يشتد الألم.
لكن السنوات الأخيرة كشفت وجهًا آخر مؤلمًا حينما تحولت المهنة عند البعض إلى مقاولة.. قضايا إهمال طبي تأتينا يوميًا لنشرها تتزايد وضحايا لم نكن ندرك حجم مأساتهم الحقيقية إلا عندما وجدنا أنفسنا فجأة في قلب التجربة.
ما حدث لي خلال اليومين الماضيين لم يكن مجرد موقف عابر بل سيناريو قاسٍ كاد أن ينتهي بفقدان زوجتي لولا ستر الله ولطفه أولًا ثم ضمير ومهارة وإنسانية أطباء ما زالوا قابضين على جوهر هذه المهنة كما ينبغي.
بدأ الأمر منتصف الليل بتعب مفاجئ وألم حاد لم تُفلح معه المسكنات ولا محاولات التهدئة ومع استمرار الألم حتى اليوم التالي توجهنا إلى طبيبة متخصصة في أمراض النساء والتوليد أتحفظ على ذكر اسمها إلى حين محاسبتها، حيث طمأنتنا بعد فحص وسونار بأن الأمر لا يتجاوز مغصًا كلويًا والتهابات بالقولون العصبي وكتبت علاجًا احتوى سبعة أدوية وعدنا إلى المنزل ننتظر الفرج.
لكن الألم لم ينتهِ بل ازداد شراسة وكان الجسد يطلق استغاثة لا يتحملها القلب ولا يستوعبها العقل المتحير بين عدم وجود استشاريين يفتحون عياداتهم وقت الظهيرة وبين مراكز صحية قريبة كل هدفها ربحي تعتمد على خريجين جدد يكتفون بإعطاء مسكنات وتعليق محاليل وهنا تدخّل القدر في صورته الأجمل حينما تواصلت مع الصديق العزيز والطبيب الإنسان الدكتور سيد مجاهد استشاري الباطنة والجهاز الهضمي ووجدته يتأهب للذهاب إلى عيادته الخاصة بالمعادي مبكرًا، وبمجرد ما وصلنا لم يتعامل مع الأمر بسطحية أو استعجال بل أصغى وفحص وقرأ ما بين السطور الطبية كانت كلماته حاسمة ومسؤولة حين قال إن الأمور من منظور تخصصه مطمئنة لكنه غير مطمئن على الإطلاق وأن هناك ما يستدعي تدخلًا عاجلًا من تخصص النساء والجراحة بقسم طوارئ فكتب تقريره الطبي ووجّهنا فورًا إلى مستشفى يضم قسم طوارئ مجهزًا ولم يكتفِ بذلك بل ظل متابعًا للحالة بقلق العالم وإنسانية الأخ.
وفي طريقنا سبقني إلى المستشفى صديقي حسام عبد الراضي الذي وصفها لي بأنها الأفضل والأسرع وفي مستشفى الأندلسية وبعد فحوصات وطوارئ وسونار تجلّى لطف الله مرة أخرى حين فحص الحالة الطبيب النبيل الدكتور محمد سليم نائب النساء والطبيبة الاستشارية الماهرة والإنسانة الدكتورة سارة لتكتمل الصورة بفريق طبي أدرك خطورة الموقف دون تردد فالتشخيص جاء صادمًا ودقيقًا في آن واحد نزيف داخلي وتجمعات دموية وانفجار يستلزم تدخلًا جراحيًا فوريًا دون انتظار أي إجراءات ورقية لم يكن هناك وقت للمناقشات أو الحسابات بل سباق حقيقي مع الزمن لإنقاذ روح على حافة الخطر.
وعلى وقع الخوف والارتباك راودتني فكرة نقلها إلى أحد المستشفيات التي يديرها الطبيب المحترم الدكتور خالد أمين عضو مجلس نقابة الأطباء وذلك بناءً على توصية مشكورة من الصديق الاستاذ محمد الجارحي عضو مجلس نقابة الصحفيين ومسؤول ملف الرعاية الصحية بالمجلس خشيةً مني من خوض تجربة طبية جديدة داخل مستشفى لم يسبق لي التعامل معها خاصة مع خطورة العملية.
هذا التردد الإنساني قوبل بحسم مهني نادر من نائب النساء الطبيب محمد سليم الذي قالها بوضوح لا يحتمل التأويل مؤكدًا استحالة خروج الحالة أو تأجيل التدخل وأن الوقت لم يعد في صالحنا وأن النقل في تلك اللحظة مخاطرة حقيقية لا تُحتمل عواقبها وأن دقائق الانتظار كفيلة بتحويل الأمل إلى خسارة كبيرة وهاتف الدكتور خالد وشرح له الوضع الطبي للحالة وأمسك الأوراق بدلا مني وذهب مسرعًا لإنهائها.
ما لفت انتباهي وما سيظل عالقًا في ذاكرتي طويلًا أن اندفاع الأطباء د سارة ود محمد وحماسهما لإنقاذ الحالة فاق قلقنا نحن أصحاب المصاب أنفسنا، لم أرَ في حياتي نموذجًا يجسد معنى الطبيب الإنسان كما رأيته في تلك اللحظات حيث امتزج العلم بالضمير والخبرة بالرحمة والحسم بالمسؤولية.
وهنا يتجلى التناقض المؤلم الذي لا يجوز الصمت عنه بين طبيب متعجل اكتفى بتشخيص سهل ومسكنات صامتة كادت تُخفي الخطر بدلًا من علاجه وبين طبيب مهني واعٍ يرى المريض بعين الضمير لا بعجلة العيادة يوجه بشكل سليم وأخر يضع حياة الإنسان فوق أي اعتبارات أخرى حتى لو خالفت رغبة أهل الحالة أنفسهم.
بفضل الله أولًا ثم بفضل إنسانية ومهنية هؤلاء الأطباء الشرفاء نجت زوجتي من خطر محقق كان يمكن أن ينتهي بوفاتها لو تأخر التدخل ليلة أخرى.
ولا يفوتني أن أتقدم بخالص الشكر والتقدير لكل من ساند ووقف وطمأن وفي مقدمتهم السيد الوزير محافظ القاهرة الدكتور إبراهيم صابر واللواء أحمد الدميري، والعقيد أحمد مختار ومدير المستشفى الدكتور علاء الجويني وعلاقات وزارة الداخلية وأصدقائي الأعزاء الأساتذة الكبار محمود المملوك وحسام عبد الراضي ومحمد كمال ومحمد جودة وياسر سليمان وإيهاب غانم وأهلي وأصدقائي وكل من حضر وكان حاضرًا بقلبه ودعمه في تلك الساعات الحرجة.
هذه ليست شهادة مدح بل شهادة حق لأن مهنة الطب لا تحتمل الاستهتار ولا تغفر الرعونة لكنها تكافئ من يصونها بضمير حي ويؤمن أن العلم بلا إنسانية قد يتحول إلى خطر صامت.
ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله


