الأربعاء 29 مايو 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

الفراغ.. قصة قصيرة لعبير عزاوي

عبير عزاوي
ثقافة
عبير عزاوي
السبت 17/أبريل/2021 - 03:26 ص

عيناها خاليتان من النظرات شاخصتان الى المرأة القابعة في الزاوية محدقة في الفراغ، تحاول ان تجتذب نظراتها إليها فلا تفلح ؛ يتململ طفلها في حضنها البارد يعيدها إليه فتحاول إرضاعه، لكن ثديها يمانع فلا يدرّ له الحليب، تعاود البحث عن المرأة في الزاوية فلا تجدها اختفت فجأة، تشرد بعينيها تبحث عنها في ارجاء الغرفة، يوقظها من شرودها صوت بكاء الطفل، تهرع إليه اختها من الغرفة المجاورة : 

- لم أشعر أنك أفقت من النوم!

تلتقط الطفل من حضنها بخفة 

- من جلب لك الصغير؟! 

 عامر جلبه لي لأرضعه. تهمس بوهن:

- هل درّ حليبه؟!

 تهزّ رأسها نفياً، تعود للشرود وعيناها تبحثان في زوايا الغرفة .

- ارتاحي الآن .

تساعدها أختها لتعاود الاستلقاء في فراشها. عيناها تجوسان الغرفة مروراً بالسقف مستمرتين بالبحث عن تلك المرأة.

تخرج أختها تضع الطفل في فراشه، كانوا قد أعدوا له غرفة خاصة زينوها بألعاب متنوعة وهي رافقت زوجها عامر لشراء أغراض الطفل. اختارا ألوان قوس قزح لطلاء الغرفة والسرير الخشبي والخزانة الصغيرة، جهزا الفراش الناعم والأغطية الوثيرة المزينة برسومات نجوم لامعة، والألعاب على شكل حصان وزرافة وغزلان متعددة الأحجام والألوان.

عند ولادتها؛ احتفل بها عامر؛ زيّن الجناح الخاص بالولادة في المشفى بالبالونات الزرقاء والبيضاء؛ كان انتظاراً دام خمسة عشر عاما؛ لم ييبس أملهما، ولم يتوانيا عن سلوك كل السبل لتحقيق حلمهما بإنجاب ولد؛ وقد تحقق الحلم وأوشكت سعادتهما أن تكون كاملة لولا الحزن الذي داهمها في شهور الحمل الأخيرة وتفاقمه بعد الولادة خصوصاً بعد ظهور تلك المرأة قرب سريرها في المشفى؛ حدقت في وجهها ونفثت فيه وهجاً من أنفاسها السخينة، ثم جلست في الزاوية تنظر إليها تارة وتغوص في فراغ الغرفة تارة أخرى. أغمضت عينيها لتنسى وجه المرأة المعذب وأنفاسها الحارقة. ظنته حلماً أو هلوسات الإفاقة من التخدير بعد العمل الجراحي .

فتحت عينيها وجدت المرأة في زاويتها المعتادة تحدق في الفراغ.. أجفلها صوتها وهي تئن، حاولت الهروب من صوت الأنين المتواصل وضعت يديها على أذنيها فلم يتغير صوت الأنين بل أخذ ينخر رأسها مخترقاً أذنيها نازلاً إلى حلقها ثم يدفق من مؤخرة رأسها.

غادرت المشفى لتجد نفس المرأة في بيتها تجلس في الزاوية المقابلة لسريرها وتحدق في الفراغ عينه، حاولت أن تتذكر أين رأت ملامحها لكنها لم تفلح بقيت صورة المرأة عصية على ذاكرتها.

-  سلوى؛ أتشعرين بالجوع؟!

قالت أختها نجوى

هزت رأسها موافقة. أحضرت طبقاً فيه حساء خضراوات مخضر اللون، وبدأت تلقمها رشفات صغيرة في، لم تكد تبتلع اللقمة الثالثة حتى هرعت إلى الحمام وأفرغت كل ما في جوفها، جلست على الأرض وانخرطت ببكاء صامت، عادت متحاملة إلى غرفتها وأختها نجوى تسندها؛ توقفت فجأة، لمست بأصابعها ثوبها المبلل عند صدرها ببقعتين مدورتين حول حلمتيها؛ ارتجفت، همست أختها: - الحمدلله؛ سأحضر الصغير لترضعيه .

جلست على طرف الفراش ونوبة الارتجاف التي اجتاحتها تزداد عنفاً؛ وضعت أختها الرضيع في حضنها وساعدتها في إخراج ثديها وإلقامه لفم الطفل، وهي مشغولة بارتجافها الذي لا يتوقف.. أبعدت الطفل عنها بجفاء؛ واستلقت على الفراش وأدارت رأسها باتجاه الزاوية التي تقبع فيها المرأة رأتها تضع كفيها على رأسها وتواصل أنينها، فوضعت يديها على أذنيها لتمنع الأنين من طرق رأسها .

قالت نجوى:- ما رأيك أن أضع الطفل هنا؟!

عندما تشعرين بالدفء قليلا عاودي محاولة إرضاعه، سأذهب لأحضر لك غطاء صوفياً آخر.

أحكمت الغطاء حول كتفيها ومضت .

كانت الرائحة التي تنبعث من الطفل عذبة تتغلغل في أنفها وصدرها؛ فغفت لثوان، ثم فزعت من غفوتها على صوت أنين المرأة يمخر رأسها من جديد ويبدو قريباً منها حد الالتصاق؛ فتحت عينيها صدمها وجه المرأة وهو يجاورها في الفراش وهي تفتح فمها على اتساعه والأنين يحطم آخر خلية في رأسها ويدفق بلا توقف من مؤخرة رأسها.. تناولت الوسادة وضعتها على وجه المرأة أغمضت وأخذت تضغط وتضغط حتى اختفى الأنين وهمدت المرأة .

 ارتخى ذراعاها ببطء كانت رائحة الطفل تنسحب من حولها وهو راقد بلا نفس. هزته مرة بعد مرة وهي تصرخ وقد تكشفت لها ملامح المرأة فعرفت وجهها فيها، عادت لتجلس في الزاوية صامتة تحدق في الفراغ.

تابع مواقعنا