الأحد 28 أبريل 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

الحكومة التي قتلت صاحبها

الجمعة 26/يناير/2024 - 01:23 م

سبق وأوضحت في كتابات عدة أن ارتفاع قيمة الدولار وتفحل الديون وأيضا تزايد التضخم ما هي إلا أعراض المرض الحقيقي ضعف إدارة الاقتصاد وعدم إنتاجيته، حيث إن علم اقتصاد قائم في أساسه على التوازي بين مدخلاته ومخرجاته.

كما أنه يجب الاعتبار أن أحد مفاهيم الاقتصاد المتعارف عليها تقصره على أنه علم المقايضات، بمعنى أنه لو أرادت أي حكومة أن تنفق بشكل يفوق قدرتها فهناك تبعات لذلك لا بد أن تراعيها وأولها التضخم لحماية المواطنين.

وبينما الحديث الاقتصادي منهمك الآن في التناقش حول ارتفاع قيمة الدولار أو تعاظم الدين الخارجي، وآثارهما المربكة للوضع واستحواذهما على اهتمامات الحكومة، هناك مشكلة أخرى تتوغل في المشهد منذ ما يزيد عن العام لا تقل ضراوة عنهما بل إن أثرها مدمر على السواد الأعظم من المواطنين.

تعرف هذه الظاهرة بالـFinancial Repression أو ما يعرف بالقمع المالي، وترتب إحساس متضاعف عند المواطنين بآثار التضخم والغلاء، بالشكل الذي يزيد الطين بلة فلا تجعل الظروف المعيشية للمواطنين مرتبكة وحالكة فقط، بل أنها تنتقل إلى مدخراتهم شيئا فشيئًا وتُخفض قيمتها.

كلام بايت في الاقتصاد

ويعني القمع المالي، حصول المدخرين لفترة طويلة على عوائد أقل من معدل التضخم من أجل السماح للبنوك بتقديم قروض رخيصة للحكومة بهدف التقليل من عبء السداد عن الحكومة ومساعدتها في الاستمرار في الإنفاق المستمر على حساب أي شيء آخر حتى وإن كان المواطن نفسه.

فالعلاقة الطبيعية بين التضخم وسعر الفائدة تفترض أنه مع زيادة التضخم يتم رفع الفائدة بمعدل موازٍ لكبح جماح التضخم من ناحية وللحفاظ على قيمة المدخرات أيضا، ورغم أن هذه العملية اختصاص أصيل للبنوك المركزية إلا أن تدخل السياسة المالية ووضع الديون الحكومية يفرض وضعا معاكسا.

هوامش ندوة صندوق النقد

خاصة وأن الحرص على انخفاض سعر الفائدة الاسمي يؤدي لخفض تكاليف خدمة الدين الحكومية، في حين أن أسعار الفائدة الحقيقية السلبية تحدث تآكل في القيمة الحقيقية للدين، وهو ما قد يكون مفيدا للحكومة باستخدام التضخم لتصفية الديون، ألا أنه في ذات الوقت يضيع مخدرات المواطنين ويتم بشكل أشبه بالضرائب غير الرسمية عليهم.

لا تقتصر الإشكالية عند هذا الحد فقط، بل أن هناك ممارسة أخرى شديدة الخطورة تحدث بالتوازي معها، وهي ما تعرف بالـ Debt monetization أي التمويل النقدي عن طريق اقتراض الحكومة بشكل مباشر من البنك المركزي لتمويل الإنفاق العام بدلا من بيع السندات أو زيادة الضرائب.

فطبقا لبيانات المركزي في الربع الثالث من 2023، وصلت قيمة اقتراض الحكومة من المركزي إلى 2 تريليون جنيه، في حين أن قانون البنك المركزي ينص على أن تمويل العجز بهذا الشكل لا يجب أن يتعدى 10% من متوسط إيرادات الخزانة العامة ويفرض سداده في عام واحد، ورغم ذلك فالمبلغ المقترض تقارب قيمته مرة ونصف قيمة إيراد الحكومة كاملا.

متى نسدد ديون مصر؟

‏يعني هذا أن الحكومة لم تحتكر سعر الدولار الرسمي لها فقط لسداد أقساط الديون، بل أن سياساتها رتبت احتكارها للجنيه كذلك، فهي تمول مصاريفها بالعملة المحلية على حساب تآكل كبير للثروات وأيضا على حساب تعطل أي آليات لمواجهة التضخم الذي يعصف بمعيشة جميع الطبقات.

ففي حين أن الدين الداخلي "مفترض" آمن نسبيا، إلا أن التوسع المالي الرهيب لسياسات الحكومة والحرص على عدم توقفه بأي شكل وتحت ضغوطات يجرّنا لمستويات تضخم غير مسبوقة.

قد تكون الحكومة تستهدف من انتهاج سياسة نقدية متساهلة وسياسة مالية مفرطة في التغول، أن تضمن الوقاية من الانكماش وتعزيز النمو الاقتصادي والتشغيل، إلا أنه لا محالة سوف ستطفو عواقب وخيمة غير مقصودة وغير محمودة منها ارتفاع وتيرة التضخم بشكل مزمن، وحدوث فقاعات سعرية في أسعار الأصول والذهب واتساع التفاوت الاقتصادي على حساب صغار المدخرين وحساب القطاع الاكبر من العامة.

اقتصاديات الطائرات الورقية 4: الخلاص المُنتظر

اعلم أن المشكلة في مصر معقدة في ضوء ما عرضته آنفا، ووضعها غريب مفروش بأبوية الحكومة ونواياها الحسنة بمحاولتها عدم التخلف عن سداد الديون التي استهلكتها في مشروعات خدمية غير مدرة للعملة وفي نفس الوقت عدم التوقف عن الإنفاق، لكن محاولة الانتصار على السوق وعدم الاعتبار لقواعده فهي لن تجلب إلا مزيدا من الأزمات، وكافة شواهد التجارب الدولية التي لم تنتهي نهاية سعيدة خير شاهد على ذلك.

‏وفي تقديري فإن علاج هذا الوضع يجب أن يتم سريعا من خلال ما يُعرف بعمليات السوق المفتوح لسحب كمية السيولة وتوفير معدل فائدة يراعي معدلات التضخم بالطبع مع إتباع سياسة تشديد نقدي، أما الاستمرار في هذا الوضع المشابه لمقولة "الدبة التي قتلت صاحبها" فثمنها فادح للغاية خاصة على المواطن.

ولمن لا يعلم فهذه المقولة هي مثل عربي قديم يحكي عن دبة كانت تحب صاحبها لدرجة الجنون وتدافع عنه بشراسة، وعندما رأته نائمًا تحت الشجرة ورأت ذبابة تضايقه أثناء نومه، فما كان منها إلا أن أتت بحجر ضخم وألقته على وجه صاحبها فقتلت الذبابة وقتلت صاحبها.

تابع مواقعنا