أكتوبر الذي لا يُنسى
في زمن تتسارع فيه الوتيرة نحو النسيان، ويتبارى البعض في تشويه التاريخ أو تقزيم البطولات، يبقى السادس من أكتوبر 1973، لحظة فارقة لا تعرف الخفوت ولا السكون.
إنه اليوم الذي انتفضت فيه الأمة العربية من بين رماد الهزيمة، لتعلن للعالم أن النكسة لم تكن نهاية القصة، بل كانت بداية لمعركة استعادة الكرامة.
هيهات هيهات أن يُنسى أكتوبر، لأنه لم يكن مجرد حرب انتصر فيها جيش، بل نقطة تحوّل في الوعي القومي، وميلاد جديد لثقة أُمة بكاملها في نفسها.
حين اندلعت حرب أكتوبر، كانت إسرائيل تسيطر على كامل شبه جزيرة سيناء، وتفاخر بنشوة انتصارها في 1967.
كان العالم، بمن فيهم الحلفاء، يعتقدون أن عبور قناة السويس مستحيل، وأن خط بارليف، بألغامه وحصونه، هو الحصن الذي لا يُقهر.
لكن الجيش المصري، بقيادة الرئيس أنور السادات، وبعقلية القائد العبقري سعد الدين الشاذلي، ومع إخلاص الجنود الذين حملوا أرواحهم على أكفهم، حوّل المستحيل إلى واقع.
في أقل من 6 ساعات، عبر أكثر من 200 ألف مقاتل القناة، وتم تحطيم خط بارليف، وتغيرت ملامح المعركة، وانهارت أسطورة الجيش الذي لا يُهزم.
لم يكن النصر مجرد ضربة عسكرية مفاجئة، بل هو نتيجة سنوات من الاستعداد، والصبر، وإعادة بناء القوات المسلحة بعد نكسة 1967.
لقد أعادت مصر هيكلة جيشها بالكامل، وبنت منظومة دفاعية قوية، ونجحت في خداع العدو بكل الوسائل، من المناورات الدبلوماسية إلى التمويه الإعلامي وحتى في توزيع الجنود على الجبهات.
ومعركة أكتوبر لم تكن فقط معركة بندقية ومدفع، بل كانت معركة نفس طويل، وثقة بأن الحق لا يموت إذا سُقي بالإرادة.
انتصار أكتوبر لم يكن فقط استعادة لأرض سيناء، بل كان استردادًا لـ كرامة أمة عربية أُهينت، ولفكرة المقاومة في وجه الاستسلام.
لقد غيّرت حرب أكتوبر نظرة العالم إلى العرب، وأثبتت أن الهزيمة لا تعني نهاية الطريق، بل بداية التحدي.
قالها السادات: إن ما أخذ بالقوة، لا يُسترد بغير القوة.. وقد صدق.
المفارقة الأهم أن من تحدثوا بأكثر وضوح عن عظمة نصر أكتوبر... لم يكونوا فقط العرب، بل القادة الإسرائيليون أنفسهم.
موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها، قال بعد الحرب: لقد واجهنا أكبر أزمة في تاريخ إسرائيل، وكان بإمكان المصريين التقدم أكثر.
جولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، كتبت في مذكراتها: لقد شعرت بأن نهايتي قد اقتربت.. لقد هُزمنا نفسيًا وعسكريًا في الأيام الأولى.
وفي فيلم جولدا الأخير، تم تسليط الضوء بوضوح على الارتباك الإسرائيلي الهائل، والانهيار المعنوي في صفوف الجيش، فيما اعتبره كثيرون فضحًا للصورة التي سعت إسرائيل لترسيخها عن نفسها كقوة لا تُقهَر.
ولا يمكن الحديث عن أكتوبر دون ذكر الدعم العربي الهائل، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا:-
الجيش السوري قاتل على الجبهة الشمالية ببسالة، العراق، والجزائر، والكويت، والمغرب، وتونس أرسلت قوات وأسلحة ودعمًا لوجستيًا.
النفط العربي استخدم كسلاح اقتصادي لأول مرة في التاريخ، عندما قررت دول الخليج بقيادة الملك فيصل قطع الإمدادات عن الغرب الداعم لإسرائيل.
لقد كانت لحظة وحدة عربية لا تُنسى، أثبتت أن الكلمة حين تتوحد، تستطيع أن تغيّر ميزان العالم.
اليوم، وبعد مرور أكثر من 50 عامًا، لا تزال معركة أكتوبر مصدر إلهام للأجيال الجديدة.
ليس فقط لنتذكر الانتصار، بل لندرك أن إرادة الشعوب لا تُهزم، مهما طال الظلم أو اشتد القيد.
لكن الحقيقة المؤلمة أن هناك من يحاول طمس هذا النصر، إما بالتقليل من حجمه، أو بإغراقه في سرديات محبطة.
ولذلك نقولها من جديد: هيهات هيهات... أن يُنسى أكتوبر.
لأنه في كل طلقة عبرت القناة، وكل علم ارتفع على أرض سيناء، هناك رسالة تقول: لا تصدق من يقول إن الأوطان تُباع، أو أن الشعوب عاجزة.
فحين يؤمن الناس بعدالة قضيتهم، لا قوة على وجه الأرض تستطيع هزيمتهم.
في ذكرى أكتوبر، لا نكتفي بالاحتفال، بل نُجدد العهد أن نبقى على درب من قاتلوا،
أن نحفظ تاريخنا من التحريف، أن نُعلّم أبناءنا أن المجد لا يُورّث، بل يُنتزع.
هيهات هيهات... أكتوبر لا يُنسى لأن المجد حين يُكتب بالدم، لا تمحوه السنون.


