أبطال خلف الزجاج.. المرممون حراس ذاكرة المتحف المصري الكبير| ملف
بين جدران المعامل الصامتة داخل المتحف المصري الكبير، تدبّ الحياة في أحجارٍ ظنها الزمن قد نامت إلى الأبد، وخلف الصناديق الزجاجية، يقف جنود لا يراهم الزوار، لكنهم يتركون بصماتهم على كل قطعة تعرض داخل المتحف، أبطال من نوعٍ خاص، مرمّمون مصريون يعيدون تشكيل الذاكرة، يُداوون جراح التماثيل، ويلملمون شظايا التاريخ بحذرٍ يفوق حذر الأطباء.
عبقرية توت عنخ آمون
وسط كنوز توت عنخ آمون التي تخطف الأنظار، تقف قطعة فريدة من الخشب الطبيعي، طولها نحو 180 سم، صُمّمت لتكون رفيقة الملك في رحلاته، تجمع بين الجمال والوظيفة في آنٍ واحد، سرير بسيط الشكل عظيم الفكرة، وأول سرير قابل للطي في التاريخ.
أول سرير قابل للطي
يقول الدكتور حسين كمال، مدير عام شؤون الترميم بالمتحف المصري الكبير: "هذا السرير يثبت أن المصري القديم سبق زمانه بآلاف السنين، لقد ابتكر مفاصل نحاسية دقيقة تتيح طيّ السرير وحمله بسهولة، دون أن يفقد توازنه أو صلابته".

وعن ترميمه، يقول كمال إن السرير خضع لعمليات ترميم دقيقة لإعادة تثبيت مفاصله النحاسية وتنظيف أخشابه دون المساس بأصالته، مشيرا إلى أنه بعد أن استعادت أجزاؤه تناغمها، سيقف هذا السرير شاهدًا على عقلٍ هندسي سبق التكنولوجيا الحديثة، وعلى أيادٍ مصرية أعادت له الحياة من جديد.
الألباستر يتألق
ليس السرير الشاهد الوحيد على عظمة تفرد بها القدماء المصريين، فداخل معامل الأحجار والنقوش الجدارية، كان المشهد أقرب إلى ورشة فنٍ إلهي، حيث قطع الألباستر، التي تتهيأ في أبهى صورها بعد سنوات من العمل الدقيق، لتُعرض أمام الجمهور العالمي.
هدير خليل، أخصائية الترميم بالمتحف، تقول إن كل قطعة مرت بمراحل معقدة تبدأ بالفحص والتحليل، ثم الترميم التدعيمي للحفاظ على مادتها الأصلية.

“أحيانًا لا نضيف شيئًا، فقط نمنع الزمن من أن يسرق ما تبقى منها”، تكمل المرممة بابتسامة فخر، موضحة أن من بين هذه القطع إناء أثري نادر لتوت عنخ آمون، كان في حالة سيئة، لكنه اليوم يقف شامخًا بعدما تمت معالجته بمواد قابلة للإزالة، لضمان الحفاظ عليه لأجيالٍ قادمة.
حكاية من طين
وفي قاعة العرض الجديدة بالمتحف المصري الكبير، تقف جرة فخارية بسيطة المظهر، لكنها تخطف القلوب قبل العيون، تلك الجرة تحكي قصة المصري القديم كما عاشها: يأكل، يشرب، ويُبدع من الطين فنًا خالدًا.

خضعت الجرة لعمليات ترميم معقدة استغرقت أسابيع داخل معامل الفخار بالمتحف، كما يقول المرممين الذين شاركوا فيها، بدأ بإزالة الأملاح وتنظيف الأسطح، ثم إعادة تجميع الأجزاء المنفصلة حتى استعادت شكلها الأصلي، “الموضوع مش مجرد وعاء من الصلصال، دي قطعة من الذاكرة، تنقل الزائر من قاعات الملوك إلى بيوت البسطاء، حيث وُلدت الحضارة من الطين”.
المهمة الأصعب والأدق
من بين جميع المواد الأثرية، يبقى الفخار أكثرها حساسية وصعوبة في الترميم، حيث تقول أسماء عبد المعطي، مسؤولة ترميم الفخار بالمتحف: “كل قطعة فخار كأنها مريض هشّ، تحتاج إلى عناية خاصة ومواد محددة لا تؤثر على الأصل، معظم القطع وصلتنا مفككة تمامًا، وعدنا نجمعها كما كانت، قطعةً قطعة.”

وتتابع عبد المعطي، أن العمل على الفخار لم يكن تجميلًا، بل استكمالًا علميًا دقيقًا يعتمد على مواد يمكن إزالتها مستقبلًا دون ضرر، موضحًة أن الفريق التزم بأعلى المعايير العالمية في حفظ التراث، لتخرج القطع وكأن الزمن لم يمرّ بها، وأن صناعة الفخار نفسها كانت من أقدم الحرف التي عرفها المصري القديم، من تشكيل الطين باليد في عصور ما قبل الأسرات إلى استخدام عجلة الفخار في الدولة الحديثة، وهي الرحلة التي وثّقتها جدران المقابر قبل أن يُعيد المرممون كتابتها بلمساتهم اليوم.
من الغبار إلى المجد
وفي أروقة معمل الترميم الحجري، تُشرق المعبودة "سخمت" من جديد، أنثى الأسد التي كانت رمز الحرب والشفاء عند المصريين القدماء، وبعد شهور من العمل الدقيق، استعادت التماثيل هيبتها الأولى على يد فريق من المرممين المصريين الذين استخدموا أحدث التقنيات العالمية لضمان الحفاظ على أدق التفاصيل الأصلية.

وتُعد تماثيل سخمت من أروع ما نُحت في مصر القديمة، فهي تجسد القوة والرهبة معًا، وتُعد من أكثر القطع انتظارًا في افتتاح المتحف المصري الكبير، حيث ستُعرض هذه التماثيل داخل القاعات الرئيسية في تصميم فني يبرز شخصية الإلهة القوية، رمز العدالة والحماية في العقيدة المصرية القديمة.

“كل شقٍّ صغير فيها كان حكاية”، هكذا قال أحد المرممين وهو يزيل الغبار عن وجهها الحجري: “نحن لا نُرمم حجارة، نحن نعيد روحًا إلى الحياة"، مؤكدين على أنه في كل زاوية من المتحف المصري الكبير، حكاية إنسان وراء حجر، ووراء كل قطعة معروضة مجهود للمرممين الذين يشعرون بالفخر لاكتمال عملهم.


