أحمد حمدي يكتب: جامعة لعلوم المصريات.. فرصة حقيقية لكشف سر الأجداد وبناء مستقبل الأحفاد
لا صوت يعلو فوق صوت المتحف المصري الكبير، فهو الحدث الأبرز الآن في مصر والعالم، خاصة أن الأنظار كلها تتجه إلى مصر، الدولة التي جاءت ثم جاء التاريخ كما وصفها العم نجيب، وبعد ساعات قليلة يصطحب الرئيس السيسي رؤساء وقادة العالم لافتتاح المتحف المصري الكبير، المتحف الأكبر في العالم الذي يضم حضارة واحدة، ويجمع بين جدرانه التي تمتد على مساحة 117 فدانًا، ويضم 5398 قطعة أثرية نادرة، ويعيد تقديم الحضارة المصرية القديمة التي تركت آثارها على العالم أجمع.
إن افتتاح المتحف المصري الكبير ليس فقط من أجل استعراض تاريخ بلدنا الذي جاء قبل التاريخ، بل هو فرصة حقيقية لبناء مستقبل مشرق للأجيال القادمة، فحقٌّ علينا أن نصنع لأبنائنا وأحفادنا مستقبلًا مشرقًا يستمد أصالته من تاريخ الأجداد رمسيس وتوت عنخ آمون، فمع الافتتاح التاريخي للمتحف المصري الكبير، أحد أعظم المشاريع الثقافية في القرن الحادي والعشرين، أرى أن اللحظة باتت مواتية للبدء بقوة في البحث عن سر قوة أجدادنا ومعرفة الكنز الحقيقي المفقود في تاريخ الحضارة المصرية القديمة، فالمصريون القدماء لم يتركوا لنا فقط ثلث آثار العالم، ولم يتركوا لنا عجائب الدنيا فقط، ولكن تركوا لنا سر الحياة والتقدم الذي لم يصل إليه إنسان إلى الآن، الحضارة المصرية التي قدمت للعالم معجزات في كل مناحي الحياة وفي كل مختلف العلوم.
والبحث عن أسرار الحضارة القديمة ومعرفة كيف تم بناء الأهرامات، وما الغرض الحقيقي منها، وهل تعد الأهرامات مشروعًا لتوليد الطاقة كما يُشاع؟ وأيضًا البحث عن سر التحنيط، وكيف صنع المصريون القدماء كل هذه الحضارة، وكذلك البحث في المعجزات الفلكية والهندسية والفنون الأخرى التي تركتها الحضارة المصرية القديمة يحتاج إلى مشروع بحثي وعلمي وأكاديمي فريد من نوعه، مشروع يُشَيَّد على أرض الأجداد، وبالقرب من المتحف المصري الكبير في الجيزة، وذلك عبر إنشاء جامعة مصرية متخصصة في علوم المصريات تكون الأولى من نوعها في العالم، وتضم كليات متخصصة.
فأصبح من الضروري أنه بدلًا من أن تُجرى أبحاث علم المصريات في مؤسسات بأوروبا وأمريكا الشمالية واليابان، أن تُجرى في مصر نفسها، كما أنه يجب أن يكون في مصر جامعة متكاملة ومتخصصة في علم المصريات تتيح للباحثين الالتقاء بزملائهم وتبادل الأفكار وبدء مشاريع بحثية جديدة في دراسة علم المصريات، وحتما علينا أن يكون لمصر، صاحبة الإرث الأعظم، جامعة بحثية متخصصة في دراسة الحضارة المصرية القديمة، وحتما علينا أيضًا أن يخرج علم المصريات من قاعات أقسام كليات الآداب والآثار إلى ساحة علمية وبحثية تكون كيانًا جامعيًا متكاملًا يجمع بين الدراسة والبحث والتطبيق.
الجامعة وأهدافها وموقعها
وحتى يكون الأمر واضحًا أمام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، التي تعد هي صاحبة القرار في التنفيذ، فإن إنشاء جامعة متخصصة لن يُغني العالم ولا الحضارة المصرية عن الأقسام التي يُدرّس بها العلم في أرقى الجامعات العالمية من أكسفورد وكامبريدج إلى هارفارد والسوربون، إلا أن إنشاء جامعة في مصر نفسها يساعد المتخصصين في هذا العلم على الاجتماع والعمل في فريق واحد على بُعد كيلومترات من الأهرامات ومن المتحف الكبير، مما يُسهِّل الأمر أمام الباحثين لتحقيق استفادة قوية من تلك الأبحاث، كما أنه يساعد أيضًا على إعداد خريج متخصص ومتكامل قادر على الدراسة والبحث والتطبيق في الحضارة المصرية القديمة.
وما شجعني على طرح هذه الفكرة، أولًا هو الجهد الكبير الذي بذلته مصر في إنشاء المتحف المصري الكبير، وثانيًا هو بدء وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الدخول في عصر الجامعات المتخصصة بإنشاء جامعة مصر للمعلوماتية، أول جامعة متخصصة في علوم الحاسب والذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط، وعمل الوزارة بالتنسيق مع وزارة النقل على إنشاء أول جامعة متخصصة في علوم النقل، وكذلك العمل على إنشاء جامعة متخصصة في العلوم الزراعية، وأيضًا الأكاديمية الدولية للعمارة التي ستكون هي الأخرى نواة لجامعة متخصصة في هذا العلم.
لذا فإن إنشاء جامعة متخصصة في علوم المصريات والحضارة القديمة، وأن تكون الجامعة امتدادًا للمتحف المصري الكبير في منطقة الهرم، سيحول المنطقة إلى وادي علوم المصريات، مما يجعلها مركزًا عالميًا لتعليم التراث والبحث العلمي وكذلك فنون الترميم، وتطويع استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في علوم المتاحف، ونستمد في هذه النقطة النجاح المحقق في استخدام الذكاء الاصطناعي داخل المتحف المصري الكبير.
طرح فكرة الجامعة وإنشائها لا يأتي من منطلق أن نقول: أنشأنا أول جامعة متخصصة في علوم المصريات في العالم، ولكن التطور التكنولوجي الهائل والسباق البحثي في علوم المصريات بين الشرق والغرب، مصر هي الأولى به، فبدلًا من أن يأتي العلماء من دول العالم لإجراء الأبحاث مع علمائنا المصريين ويعودوا بها إلى جامعاتهم، يبقى علماؤنا أصحاب الحقوق الأولى والحصرية، قول ذلك لا يعني أننا سنقف في وجه الباحثين من دول أخرى، ولكن فكرة الجامعة وطرحها في الأساس سيكون قائمًا على التعاون مع المتاحف والجامعات الدولية والاستفادة من أبحاثهم وعلومهم، وتطوير برامج مشتركة مع المتاحف والجامعات العالمية.
وهناك في العالم ما يقرب من 145 جامعة ومركزًا متخصصًا يقدمون دراسات وأبحاثًا وبرامج في علم المصريات، منهم 20 مؤسسة مصرية، و18 ألمانية، ثم 16 بالولايات المتحدة، و13 في بريطانيا، وفرنسا 11، لذا فإن التعاون والإعداد مع هذه المؤسسات على إنشاء جامعة واحدة على أرض مصر سيجعل هناك زخمًا عالميًا بهذه الجامعة، مما يساعد على تخريج باحثين وخبراء مؤهلين أكاديميًا وميدانيًا في علوم المصريات، وجعل مصر مركزًا إقليميًا لتدريس علوم المصريات، ونقل تلك العلوم لجيل قادم قادر على أن يكون صاحب الريادة في هذا العلم، ويكون من بينهم باحثون وخبراء في المصريات قادرون على قيادة المشاريع الأثرية محليًا ودوليًا.
كما سيساعد ذلك على إنشاء مراكز بحثية لترميم وتحليل الآثار باستخدام التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي وباستخدام أدوات رقمية، كما سيساعد على إعداد برامج علمية قوية قادرة على استخدام الذكاء الاصطناعي للتراث، ووضع إدارة للمتاحف الرقمية، وستفتح الجامعة أمام الطلاب والدارسين بها سوق عمل جديد في مجالات الترميم، والتصميم المتحفي وغيرها، وستجعل هذه الجامعة مصر قبلةً لطلاب المصريات من أوروبا وأمريكا والشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا.
فلماذا لا تكون الجامعة مركزًا عالميًا لتعليم وبحث وحماية التراث المصري المادي وغير المادي؟ ولماذا لا تكون مؤسسة أكاديمية تربط بين علوم الماضي وتقنيات المستقبل، تضم كليات متخصصة في المصريات القديمة بكل ما تحمله، وتدرس اللغة الهيروغليفية، وكلية بينية تجمع بين علوم التراث والحفظ الرقمي للتراث، تقدم برامج قادرة على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الترميم ودراسة التحليل الكيميائي والفيزيائي للآثار، وأخرى للغات تهتم بترجمة النصوص الأثرية والتاريخية لمعرفة الأسرار الغائبة، ولا بد أن تضم الكلية الآثار التطبيقية وإدارة المتاحف.
واستكمالًا لتلك الأطروحة، لماذا لا تضم الجامعة معاهد متخصصة ومراكز تميز في دراسات وادي الملوك والأهرامات والنهر المدفون، وكل الأسرار الغائبة من حضارة الأجداد، ومراكز تميز في الترميم والحفاظ على الآثار، وغيرها من مراكز التعاون الدولي في إدارة المتاحف، وأن تضم الجامعة برامج للدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه للباحثين من كل دول العالم؟ فلنجعل هذه الجامعة تتويجًا لمشروع الجينوم المصري الذي يدرس الجينوم المصري القديم والحديث، وغيرها من المشروعات المعلنة وغير المعلنة التي تعمل عليها وزارة التعليم العالي ووزارة السياحة والآثار وأكاديمية البحث العلمي وغيرها من مؤسسات الدولة الوطنية.
دراسة علم المصريات في جامعة متخصصة على أرض مصر سيكون أكبر رد على جميع المشككين في الحضارة المصرية القديمة، ومن المنتسبين لها زيفًا، ومن كل حملات التشويه التي ظهرت في الأعوام الماضية، كما سيحافظ بالفعل على الآثار المصرية من كل أفعال التشويه التي تتم جهلًا من فئات بعينها، ولدينا العديد من الوقائع في هذا الجانب التي نتطرق لها وهي في عقولنا وتصدرت المشهد سابقًا، كما أن هذه الجامعة ستكون أكبر داعم لنشر هوية الحفاظ على الآثار المصرية القديمة.
وفي نهاية هذا المقال، إليكم الفكرة والطرح لإنشاء جامعة علوم المصريات، لتليق بمصر مهد الحضارات، وكما ذكرت فلنجعل افتتاح المتحف المصري الكبير فرصة حقيقية لبناء مستقبل مشرق للأجيال القادمة، وأن نحقق خطوة قوية في جعل مصر مركزًا عالميًا للتعليم العالي في الشرق الأوسط، وأن نخطو خطوات متسارعة في مؤشرات المعرفة حتى نحقق الهدف ونقف بين مصاف الدول الأولى في المؤشر، وأن نحقق الهدف الأكبر بمعرفة سر الحضارة القديمة الغائب وامتلاكه بين أيدينا.


