المتحف المصري الكبير.. حكاية بعيون صُناعه
وسط صخب العاصمة وضجيجها، على بُعد خطوات من أهرامات الجيزة، حيث تتقاطع أنفاس الماضي مع نبض الحاضر، يقف المتحف المصري الكبير كواحد من أعظم مشروعات القرن، شاهِدًا على عبقرية المصري حين يقرر أن يترك بصمة من نور على وجه التاريخ، لكن خلف الحجارة الضخمة والواجهات الزجاجية المهيبة، هناك وجوه لم تُكتب أسماؤها على الجدران، رجال عاشوا الحلم حجرًا فوق حجر، وسقوه بعرقهم وصبرهم وشغفهم.
رجال بسطاء ومهندسون أفنوا سنوات من أعمارهم بين الغبار والضجيج، يرسمون ملامح مشروع هو الأكبر في تاريخ مصر الحديث، فوراء كل حجر في هذا المكان تقف حكايات لم تُروَ بعد، ووراء كل إنجاز وجهٌ متعب يبتسم بفخر.
في هذا التحقيق، نقترب من وجوه بعض من صنعوا الحلم، مهندسين وعمالًا عاشوا تفاصيل المشروع لحظة بلحظة، وحملوا بين أيديهم عبق التاريخ ومسؤولية المستقبل.
بين جدران المتحف، عمل المهندس شريف عيد عشر سنوات متواصلة في إدارة الصحة والسلامة المهنية، منذ 2013 وحتى 2023، عشر سنوات من الحلم والعمل، التحدي، والإصرار، كان فيها شاهدًا ومشاركًا في حلم عظيم اسمه المتحف المصري الكبير، المشروع الذي يحمل في طياته حضارة آلاف السنين، ويجسد عظمة مصر وتاريخها وقدرتها على الإبداع والإنجاز، حسب وصفه.
منذ اليوم الأول لدخول المهندس شريف الموقع، شعر بأنه جزء من كيان كبير وسط نخبة من أعظم المهندسين والفنيين والمتخصصين، عملوا بكل إخلاص، وتحت ضغوط كبيرة، تحت هدف واحد، وهو ترك صرح يليق بالحضارة المصرية للأجيال القادمة، مضيفًا: «مع كل حجر يوضع، وكل تفصيلة بتترسم، وأيضًا مع كل لحظة تعب وسهر، كانت رسالة حب وولاء لمصر، اللي طول عمرها بتثبت إنها قادرة على صنع المعجزات.. نعمل حتى نترك للأجيال القادمة صرحًا يليق بحضارة بلدنا، ويشهد على أن المصري لما يحط قلبه في شغله.. بيعمل المستحيل، مرت الأيام والسنين، وكنت شاهدًا على كل خطوة من الحلم ده وهو بيتحول لحقيقة».

ويضيف: كل تحدي قابلناه، وكل لحظة تعب مرينا بيها، كانت سبب إن النهاردة العالم كله يتحدث عن المتحف المصري الكبير كرمز للفخر، وللعزيمة، وللهوية المصرية.. ورغم إن رحلتي في المشروع انتهت سنة 2023، إلا إن جزء مني لسه هناك، في كل زاوية، وكل حجر، وكل تفصيلة من المكان ده العظيم اللي بيحمل روح الناس اللي اشتغلت فيه.
وفي نهاية حديثه، وعيناه تلمعان بفخرٍ لا يُخفى، يقول: «التعب كان يستاهل، والمجهود كان له معنى.. الشرف الحقيقي إنك تكون جزء من إنجاز يخلّد اسمك وسط تاريخ وطنك، فريق السلامة والصحة المهنية كان يعمل من القلب، للحفاظ على الأرواح والمعدات والبيئة، كنا نعمل كأننا عيلة واحدة، وده سر النجاح، إحنا كنا مؤمنين إن العظمة دي مش هتطلع غير وإحنا كلنا على قلب واحد».
«كنت عامل بسيط وشاركت في حدث خالد»
بعيدًا عن المكاتب والتصميمات الهندسية، في أرض الموقع، كان يقف حنفي محمود، والذي عمل في المتحف على مدار عامين، كعامل متخصص في الـ Eart الذي يحمي المبنى من أي زيادة كهرباء أو الصاعقة، وكان عمره حينها 20 عامًا فقط، وكانت المرة الأولى له التي يدخل فيها متحفًا.

الشاب الذي يزحف الآن نحو الـ 27 ربيعًا من عمره، يتحدث عن تفاصيل يومه التي لا تُنسى تحت سقف المتحف المصري الكبير: «كنت بروح الشغل الساعة 9 الصبح، وأخلص 5 العصر.. يوم طويل ومتعب، بس أول ما تبصي لتمثال رمسيس جوه البهو العظيم.. كل التعب بينتهي، المنظر كان يخليك تقشعر».
وبصوت ممتليء بالفخر، يردف: «الناس كانت خايفة على كل قطعة أثرية كأنها جزء من روحها، أنا يمكن كنت عامل بسيط، بس لما أشوف النهاردة المتحف في أجمل صورة، بحس إني شاركت في حاجة ستظل خالدة».
وبابتسامة عريضة، يختم حديثه، واصفًا شعوره بيوم افتتاح المتحف المصري الكبير كأنه بمثابة فرحته يوم زفافه، مضيفًا: «لما الناس تدخل وتشوف العظمة دي، هفتكر كل لحظة تعب، وكل كيلو أسلاك نقلناها، وكل خوذة لبستها.. ده مش مجرد متحف.. دا فخر».
«كنا بنبني التاريخ.. ومصر كانت بتتبني جوانا»
المهندس أحمد قرني، الذي التحق بالمتحف عام 2014 واستمر حتى 2021، يتحدث بنبرة هادئة تخفي خلفها سنوات من الجهد والخطر والاعتزاز، كشاهد على رحلة مليئة بالتحدي، والخوف، والفخر وليس كمهندس فحسب، عن رحلة كان عنوانها الأول: سلامة الإنسان قبل أي إنجاز، وعنوانها الأخير؛ هذا المتحف جزء من حياتنا، مش مجرد مشروع.

تدرج في مجال السلامة والصحة المهنية من مسؤول السلامة حتى أصبح مهندسًا أول بالمشروع، وكان شاهدًا على المشروع منذ بداياته، قائلًا: اشتغلت في المتحف من أول ما كانت الأرض فضاء، لحد ما بقى بالشكل العظيم ده، كنت واحد من فريق السلامة المسؤولين عن كل الأنشطة التي تتم داخل الموقع، وهدفنا الأساسي كان نحافظ على سلامة العاملين والمعدات، ونضمن إن كل حاجة تمشي بأمان من غير تعطيل.
يتذكر «قرني» التحدي الأكبر الذي واجهه فريق عمل المتحف المصري الكبير، خلال فترة عمله، حين وصل عدد العمال في الموقع إلى نحو 6 آلاف عامل في وقت واحد، كل في مهمة مختلفة، وكل المهام تجري في نفس اللحظة، واصفًا إياه بالمشروع الضخم جدًا من حيث التصميم والتنفيذ، وكان الجميع يعمل في مراحل مختلفة في وقت واحد.
وبنبرة يتجلى فيها الفخر، يقول لـ «القاهرة 24»: «المتحف الكبير اتنفذت فيه أشياء لأول مرة في مصر، مثل السقف الهرمي اللي اتبنى بطريقة جديدة تمامًا، وتصميم البهو العظيم اللي فيه تمثال رمسيس كـ Steel Structure بالحجم ده.. وهذا كان تحديًا هندسيًا رهيبًا، لكن التحدي الحقيقي، كما يروي «قرني»، بدأ حين بدأت مرحلة نقل الآثار إلى أماكنها داخل المتحف، بينما لا يزال العمل الإنشائي جاريًا، واصفًا إياها بأنها كانت من أخطر المراحل.
«كانت من أخطر المراحل؛ لازم نحافظ على كل أثر وسط موقع إنشائي مليان معدات ورافعات، أي غلطة كانت ممكن تكلّفنا كتير جدًا.. كنا شغالين بإيدينا على نبض قلب واحد»، بحسب «قرني».
أصعب اللحظات التي مرت على المهندس قرني خلال فترة عمله بالمتحف المصري الكبير والتي لا تزال عالقة في ذهنه حتى الآن، كانت في أثناء نقل تمثال رمسيس الثاني إلى مكانه النهائي، ورفع المسلة المعلقة في ساحة المتحف، مردفًا: «لحظات عمرها ما تتنسي، التوتر كان في السماء.. كنا عارفين إن أي غلطة صغيرة ممكن تعمل كارثة، لكن الحمد لله كل حاجة عدت بسلام، لما شُفنا التمثال واقف في مكانه.. كانت فرحة لا توصف، حسينا إن تعب السنين كلها ما راحش هدر».
ويكمل بصوت يحمل مزيجًا من الحنين والفخر: «كنا بنعتبر المتحف بيتنا التاني، بنقضي فيه أكتر ما بنقعد في بيوتنا.. اتعلمنا كتير جدًا، واشتغلنا بإخلاص لأننا كنا حاسين إننا بنبني حاجة مصر كلها هتفخر بيها.. يمكن الناس لما تزور المتحف وتشوف عظمته متعرفش حجم التعب اللي وراه، بس إحنا عشنا كل لحظة فيه، والنهاردة لما بشوف المتحف واقف كدة، بحس إني ساهمت في حاجة ولادي هيفتخروا بيها، وحاجة مصر كلها تستحق تفرح بيها.










