الجمعة 05 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

عودة المجالس المحلية… بناء الدولة من القاعدة لا من القمة

الأحد 09/نوفمبر/2025 - 03:11 م

ليست السياسة مجرد مقاعد تحت قبة البرلمان، ولا مؤسسات تصدر القرارات من أبراجٍ عالية، بل هي منظومة حياة تبدأ من أبسط احتياجات المواطن وتنتهي عند أعلى دوائر اتخاذ القرار.
وحين نتحدث عن عودة المجالس المحلية، فنحن لا نتحدث عن إجراء إداري مؤجل، بل عن ركيزة أساسية في هندسة الدولة الحديثة، وعن حجر الزاوية في بناء نظام سياسي متوازن يعيد للدولة توازنها الطبيعي بين القيادة والقاعدة.

المجالس المحلية ليست مجرد كيانات خدمية، بل هي نواة الوعي السياسي الحقيقي، المدرسة الأولى التي تخرّج منها القادة، وتُصقل فيها التجارب، ويُختبر فيها الإخلاص قبل الشهرة.
فمن يعرف تفاصيل قريته، واحتياجات شارعه، وهموم منطقته، هو الأقدر على أن يكون ممثلًا صادقًا للشعب عندما يصعد إلى المنصات الكبرى.

لقد آن الأوان أن ندرك أن المجالس المحلية هي المطبخ الحقيقي للسياسة والتنمية، فهي التي تشهد ميلاد القرار في مراحله الأولى، وتشكل الضمير الجمعي للمجتمع المحلي.
فهي العين التي ترى الواقع من مسافة الصفر، والأذن التي تسمع المواطن قبل أن يصرخ، واليد التي تمتد لتصنع التغيير لا لتنتظر حدوثه.

إن غياب المجالس المحلية عبر السنوات الماضية ترك فراغًا كبيرًا في جسد الدولة،
فغابت الرقابة الشعبية على الخدمات، وضعفت المشاركة السياسية الحقيقية، وتآكلت فكرة المسؤولية المجتمعية التي تربط المواطن بوطنه.


وبدونها، أصبح الطريق إلى القيادة السياسية يمر في الغالب عبر النخبة، لا عبر التجربة، ففقدت السياسة عمقها الشعبي، وأصبحت الممارسة أقرب إلى التمثيل منها إلى الفعل.

عودة المجالس المحلية اليوم ليست ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وطنية لبناء جيلٍ جديد من القادة المؤهلين بفكرٍ ووعي وتجربة.


هي الخطوة الأولى نحو تحقيق مبدأ اللامركزية الحقيقية التي تعني أن كل محافظة، وكل مركز، وكل قرية، تصبح شريكًا في التنمية وصاحبة قرارٍ يناسب مواردها وطبيعتها وهويتها.

إن المجالس المحلية تمثل صوت الأرض، صوت المواطن البسيط الذي لا يملك ترف الوصول إلى الإعلام أو المكاتب العليا، لكنها تُمكّنه من أن يكون شريكًا في القرار، ورقيبًا على التنفيذ، وصاحب كلمة في رسم ملامح مستقبله.

ولن تكتمل الدولة القوية إلا بوجود قاعدة سياسية وشعبية متماسكة، فكما أن البناء لا يقوم على قمة الهرم، كذلك الدولة لا تُبنى من فوق، بل من القاعدة التي تمنحها الثبات والشرعية والاستمرار.

اليوم، ونحن نخطو بثقة نحو الجمهورية الجديدة، أصبح من الضروري أن نعيد الاعتبار للمجالس المحلية، أن نعيدها لا كهيئةٍ شكليةٍ ترفع الشكاوى، بل ككيانٍ وطنيٍّ يُمارس سلطاته في الرقابة، والتخطيط، وصنع القرار المحلي.

إنها ليست مجرد انتخابات، بل ميلاد جديد للمواطنة الحقيقية، حيث يتحول المواطن من متلقٍ إلى مشارك، ومن ناقدٍ إلى صانعٍ للتغيير.

ولن يتحقق الاستقرار السياسي والاجتماعي إلا عندما يشعر كل فرد في هذا الوطن أنه جزء من القرار، وأن له مقعدًا على طاولة الوطن مهما صغر موقعه.

في عودة المجالس المحلية عودة لروح الدولة نفسها، لأنها تمثل جسور الثقة بين المواطن والحكومة، وبين القاعدة والقيادة، وهي التي تُحوِّل مفهوم “الدولة” من سلطةٍ تُدير إلى شعبٍ يُشارك ويصنع ويُراقب.

فالقيادة التي تؤمن بتمكين الناس لا تخشى المشاركة، والدولة التي تُعيد الحياة إلى المجالس المحلية لا تُضعف سلطتها، بل تُقوّي جذورها، لأن الأشجار لا تُثبّت جذوعها إلا إذا تغذّت جذورها من أرضٍ حيّة.

ختامًا.. إن عودة المجالس المحلية ليست مجرد استحقاق دستوري، بل اختبارٌ لصدق إرادتنا في بناء جمهوريةٍ جديدةٍ قوامها المشاركة والشفافية والمساءلة.
 

هي خطوة نحو ترسيخ مفهوم الوطن الشريك لا الوطن المتلقي، فمن رحم تلك المجالس ستولد القيادات التي تعرف الشارع قبل المنصب، وتفهم الناس قبل القرار، وتخدم الوطن لا تبحث عن وجاهةٍ سياسية.

حين تعود المجالس المحلية، تعود الحياة السياسية إلى نبضها الطبيعي، ويُعاد للوطن توازنه بين الحاكم والمحكوم، ويُفتح الباب أمام جيلٍ جديد من القادة الذين لا يصنعهم الضوء، بل تصنعهم التجربة، وحينها فقط نستطيع أن نقول: هكذا تُبنى الدولة.. من القاعدة لا من القمة.

تابع مواقعنا