داخل أشهر دار رعاية للأطفال على السوشيال ميديا.. هنا تُبعث الحياة في “قطعة لحم” (صور)

الساعة تشير إلي الثانية بعد الظهر، حرارة لافحة وكأن الشمس باتت تلاصق الرؤوس، أناسٌ يلتقطون أنفاسهم بالكاد، زحامٌ آدمي ومروري كبير حتى تكاد السيارات تعارض بعضها البعض وتعيق طريق المارة، وعلى آخر النظر في الشارع تجد مبنى عالي ملفت للانتباه ومع الدلوف إلى المكان، تلوح لافتة مكتوب عليها “مركز طب الأسرة بالمنيب”.

بعد مرور البوابة تجد سيدة ستينية بسيطة، تجلس في مدخل المبنى، وبابتسامة مرسومة على وجهها وبتلقائية شديدة تحدق في الداخلين وتسابقهم بالحديث: “بتسأل على الأطفال اللي بيلاقوهم في الشارع”، منذ أن انتشرت صور الأطفال على مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبح الناس على غير العادة، يأتون من كل حدب وصوب لمشاهدة الأطفال المعثور عليهم في الشوراع، “بقالنا 25سنة ومحدش عارف حاجة ولما نزلت صورهم على البتاع النت الناس بتيجي من الصبح تسأل عليهم”.

ومع هز رأسك معلنًا أنك تريد زيارة الأطفال، تأخذك السيدة الستينية وتصعد بك السلم بعد التحقق من شخصيتك وصولًا إلى الطابق الرابع العلوي من المبنى، لتجد نفسك أمام بوابة حديدية كبيرة زرقاء اللون مغلقة دائمًا يجلس خلفها مشرفة المكان، تعلوها لافتة مكتوب عليها “دار رعاية الأطفال المعثور عليها”، وعلى الجانب الأيمن من البوابة وعلى بعد مترين تقريبًا من الأرض “جرس” لإخطار من بالداخل بأن هناك شخص ما أمام البوابة.

بمجرد أن تتخطى تلك البوابة الحاجزة بعد التأكد من شخصيتك، وتطأ قدمك دار الرعاية تنتابك حالة من البهجة التي تمحو مرارة قصة أطفالًا قدموا من الزبالة بلا أبًا ولا أم، طريقة ممتدة على عرض الوحدة بها العديد من الأبواب المغلقة، جدرانها مليئة بالرسومات الكرتونية، مطليةٌ بالأزرق الذي يعطي المكان الهدوء والسلام النفسي، يفصلك في ظل رحلتك البصرية داخل أرجاء المكان لافتة مدون عليها “تنبيه هام”.

فيصل شريف ينتهي من تسجيل برنامج “فأحسن معاملتهم” لدعم الأطفال المشردين (صور)

“برجاء عدم دخول أي شخص يدعي أنه يقرب لأي طفل بالدار سواء كان أب أو أم أو عم أو غيره، إلا بقرار من النيابة، وذلك بتواجد مدير المركز والأخصائية، حرصًا على أمن وسلامة الجميع”، هكذا نص التنبيه.

ومع استكمال رحلتك داخل الطرقة الممتدة، توصلك من الجهة اليمنى بمسكن الأطفال، ومن الجهة اليسرى بالملاهي الخاصة بالدار والحمامات والمطبخ.

مدينة ملاهي الأطفال

فتلك البوابة الحديدية الصغيرة، التي تشبه إلى حدٍ بعيد سابقتها التي تغلق الدار، تفصلك عن الملاهي، والتي تحتوي على العديد من الألعاب والأراجيح والزحاليق المصممة على أشكال جاذبة وملفتة للانتباه، موضوعةُ على أرضية فُرشت بالفوم لضمان درجة آمان عالية، ويتوسط جدرانها شاشة عرض كبيرة، نحن الآن داخل مدينة “ملاهي الأطفال”، والتي تم تطويرها من التبرعات، “مفتوحة للأطفال كل يوم الصبح”.

سكن الأطفال

وعلى الجانب الآخر من الملاهي، غرفتين متسعتين متطابقتين لصيقتين، مع فتح الباب تجد عالم آخر، العديد من الأسرة وأطفال متفاوتة الأعمار ما بين الأيام حتى سنتين ونصف متزاحمة عليه، لا يعلمون من أين جاؤا وإلى إلى محطة سينتهون، وعلى الأرض تتربع الممرضات حاملين بين أحضانهم هؤلاء الأطفال وبأيديهم “الرضعة” المعدة من اللبن الصناعي، “إحنا أمهاتهم وأبهاتهم”.

الحمامات

وتلوح بنظرك بعد الخروج من غرف الأطفال، لتجد جزء منعزل في أقصى يمين الدار “المطبخ والحمامات”، مبطخ به العديد من الأطعمة الخاصة بالأطفال ومستلزماتهم التي تعاني من فقر شديد، “وده بعد مساهمات ولاد الحلال”، وتلازق تلك الغرفة الحمامات، والمعدة من جميع الإمكانيات، فضلًا عن وجود العديد من غسالات الملابس بطرقة الحمامات.

خاص.. التضامن تفوض مؤسسة “معا لإنقاذ الإنسان” لإيواء المشردين بعد توجيهات السيسي (مستند)

قصة سيدة منعها الله الخلفة ورزقها بالأطفال المعثور عليهم

الحاجة أم أحمد، سيدة أربعينية مربية للأطفال، فضلت أن تظهر باسم مستعار، حسنة المظهر وجهها بشوش عادة ما تعلوه الابتسامة وفي عينها حكايات وقصص تحكي آلام وحكايات الأطفال الأمر الذي يجعلها ملاك للرحمة بهم، ومع دخولها تجدهم يهرولون نحوها، ويتسارعون بخطواتهم البطيئة في الوصول إليها لتضمهم إلى حضنها، الذي يثلج صدورهم ويشعرهم بالدفء فترتسم البهجة على وجوههم, “هزعل قوي لما يجوا يمشوا”.

تحكي “أم أحمد” عن صديقة لها، لم يهبها الله الذرية ولكنه عوضها بالأطفال (على حد قولها)، لذا فهي تعامل الأطفال على أنهم أبنائها، “بتموت فيهم، كأنهم ولادها اللي مخلفاهم”، وتعمل على خدمة الأطفال وتسهر لراحتهم وتسعى لسعادتهم وتوفير الراحة لهم، ولا يقل عنها جهدًا حسب تصريحات “أم أحمد”، الممرضات والتي لم يتزوج أغلبهن بعد، “بقوا ما شاء الله أمهات من قبل ما تيجوزوا” تقولها وهي تضحك بوجهها البشوش.

أم هيثم أقدم عاملة بالدار: “بزعل قوي لما يجوا يمشوا”

تتذكر السيدة “أم هيثم”، وهي أقدم العاملات بالدار، يوم قدوم الأطفال، “كانت الحكومة جايباهم لحمة حمرة لاقياهم في الشوارع ومعاهم محاضر”، وتكمل السيدة قصتها مع الملجأ والأطفال، حيث أنها منذ 25 عامًا مع إنشاء الدار وهي تعمل بها، ساردةً عن معاناة المربيات وقت فراق الأطفال والدموع تنجرف من عينها، “إحنا بنزعل عليهم لما يسبونا ويمشوا.. بس هو إحنا بنربيهم لعند سنتين”، وبعد انتهاء العامين تقوم الدار بتسليمهم لدور الرعاية الكبيرة.

وتناشد السيدة الستينية المواطنين بالتبرع لهؤلاء الأطفال: “إحنا بنعمل اللي ربنا يقدرنا عليه، ونفسنا ربنا يكرمنا بس ويساعد الأطفال دي”، مشيرًة إلى أن الأطفال أصبح عددهم أكبر من الأول، الأمر الذي يحتاج إلى مجهودات مضاعفة وهذا ما يتكفلون به، إلا أن الدعم المادي ما زال عاجز عن تغطية احتياجات الأطفال وتوفير حياة كريمة لهم.

مسئولة بالدار: لدينا 29 طفل

وكشفت مسئولة بالدار، رفضت الإفصاح عن اسمها، أن عدد الأطفال المتواجدين في الدار، 29 طفلًا، مشيرةً إلى أنهم يأتون عن طريق الحكومة من الحملات التي تشنها لإنقاذ المشردين وأولاد الشوارع ويتم تسليمهم لنا لاحتضانهم والاهتمام بهم، ولا يمكن تسليمهم لأي شخص إلا بإذن النيابة، في إشارة منها إلى أنه حتى الآن لم يأتي شخصًا يدعي أن أحد هؤلاء الأطفال من أبنائه.

وأشارت إلى أن الدار تعمل منذ 25 عامًا، إلا أنها لم تأخذ حقها من الدعم، مؤكدًة على أنها رافضة لنشر صور الأطفال على السوشيال ميديا، إلا أنها كانت كفيلة أن يأتي إلينا عشرات المتبرعين، لتقديم الدعم والمساهمة في كفالة هؤلاء الأطفال، رافضةً ذكر حجم التبرعات التي وصلت، عدا أنها ذكرت أنها تلقت “غسالة جديدة وفيه شاشة اللي إنت شوفتها متعلقة دي”.

نقابة الأطباء تُسلم طبيبة مشردة لمستشفى الأمراض النفسية لإيواءها (صور)