القرار 2803.. تدويل محدود أم بوابة نحو دولة فلسطينية؟.. قراءة استراتيجية في المسار الانتقالي ومآلاته
أقرّ مجلس الأمن القرار 2803، الذي ينشئ ترتيبات دولية انتقالية في قطاع غزة تشمل قوة استقرار متعددة الأطراف، وآلية لإعادة الإعمار، وربطًا مباشرًا بين الانسحاب الإسرائيلي وإصلاحات مؤسسات الحكم الفلسطيني.
ورغم أن القرار يمثل تحوّلًا دبلوماسيًا مهمًّا في التعاطي الدولي مع غزة، إلا أنّ نجاحه ليس مسألة تقنية أو قانونية فحسب، بل نتاج موازين سياسية متحركة تشمل إسرائيل، الولايات المتحدة، البيئة الإقليمية، والانقسام الفلسطيني.
أولًا - سياق جديد: مأزق إسرائيلي وضغط أمريكي متصاعد
تواجه إسرائيل في المرحلة الراهنة مأزقًا ثلاثي الأبعاد، يتمثل في أزمة اقتصادية متفاقمة نتيجة الحرب، واهتزاز سياسي داخلي يمس شرعية الحكومة، وتراجع دولي غير مسبوق، مع اتساع العزلة القضائية بسبب الانتهاكات في غزة.
هذا السياق يدفع واشنطن وخاصة إدارة الرئيس ترامب الساعية لإحياء مسار الاتفاقيات الإبراهيمية إلى منع إسرائيل من الانزلاق إلى حرب طويلة تلتهم الاستقرار الإقليمي وتهدد مكانتها كحليف أمريكي مركزي، ومن هنا يبرز احتمال ضغط أمريكي مباشر لإجبار الحكومة الإسرائيلية على قبول مسار سياسي يقود إلى دولة فلسطينية، ولو تدريجيًا.
لكن المشكلة الحقيقية لا تقف عند حدود إسرائيل، فالبيت الفلسطيني ذاته يعيش تنازعًا صلبًا بين فتح وحماس، فحماس تتمسك بسلطتها وبنيتها العسكرية في غزة، وفتح ترى فرصة تاريخية لاستعادة الحكم الكامل بدعم دولي وإقليمي.
وفي ظل رفض عربي وفلسطيني واسع لاستمرار حكم حماس، واستحالة تجاوزها واقعيًا، يصبح القرار 2803 محاطًا بتعقيد داخلي لا يقل صعوبة عن التعقيد الخارجي.
ثانيًا - جوهر القرار: تدويل انتقالي لا يرقى بذاته إلى تأسيس الدولة
ينشئ القرار قوة دولية لـ«تحقيق الاستقرار»، تفويضها مرتبط بخطوات متدرجة تشمل: انسحابًا إسرائيليًا مشروطًا بمعايير أمنية، وإعادة هيكلة القطاع أمنيًا ومؤسسيا، وتنسيق وثيق مع السلطة الفلسطينية في الضفة.
ورغم الطابع الدولي للمسار، فإنّ القرار لا ينشئ دولة فلسطينية تلقائيًا، ولا يغيّر الوضع القانوني نقلة واحدة. فالاعتراف بالدولة يتطلب إقليمًا موحدًا قابلًا للحياة يشمل الضفة وغزة والقدس الشرقية، وحكومة تمارس سلطاتها دون وصاية، والقدرة على إجراء علاقات دولية مستقلة، وبهذا المعنى، يبقى القرار إطارًا انتقاليًا، لا مشروعًا جاهزًا للسيادة.
ثالثًا - شروط الانتقال السياسي: بين القانون والواقع
أي تحوّل نحو السيادة يتطلب توافر مجموعة متداخلة من الشروط العملية: منها انسحاب إسرائيلي كامل وحقيقي من غزة والضفة والقدس الشرقية، لا انسحابًا وظيفيًا يبقي السيطرة غير المباشرة، فضلا عن قوة دولية ذات تفويض واضح وقواعد اشتباك قادرة على ضبط الأرض، لا حضور رمزي، مع تسوية فلسطينية داخلية تمنح الشرعية للمؤسسات الانتقالية وتمنع الانقسام من إجهاض المسار، بالإضافة إلى شبكة اعترافات دولية متزامنة ترفع الغموض القانوني وتمنع استمرار الوضع «البيني» الذي يعيق بناء الدولة.
ودون هذه الشروط، يتحول التدويل إلى إدارة أزمة لا إلى مشروع سيادي.
رابعًا - السيناريوهات المحتملة لمسار القرار
1. مسار إيجابي يقود إلى تسوية شاملة
إذا استمر الضغط الأمريكي على إسرائيل ونجحت القوة الدولية في فرض بيئة مستقرة، قد ينفتح مسار تفاوضي يشمل الضفة والقدس، ويقود تدريجيًا إلى دولة فلسطينية. هذا السيناريو يحتاج إرادة دولية صلبة واصطفافًا عربيًا واضحًا.
2. تدويل وظيفي بلا سيادة
قد تدار غزة عبر نموذج هجين: سلطة فلسطينية محدودة تحت إشراف دولي، دون قدرة على فرض انسحاب شامل أو حسم الانقسام الداخلي. هنا يصبح التدويل بديلًا مؤقتًا للسيادة وليس جسرًا إليها.
3. تدويل طويل الأمد
في حال العجز عن تحقيق الشروط الأساسية، قد تستمر الإدارة الدولية لسنوات طويلة، فتتكرس غزة ككيان غير مكتمل، لا محتل بالكامل ولا مستقلًا فعلًا.
4. فشل كامل وعودة الفراغ
أي انهيار في التنسيق الدولي أو الفلسطيني قد يعيد القطاع إلى الفوضى ويمنح إسرائيل ذريعة لإعادة التدخل بأشكال جديدة.
خامسًا - العقدة الفلسطينية: الانقسام كعائق بنيوي
لا يمكن لأي مسار تأسيسي أن ينجح في ظل ثنائية فتح - حماس.
• حماس ترفض التفكيك الكامل لبنيتها العسكرية والسياسية.
• فتح ترى في القرار فرصة لعودة السلطة دون شراكة حقيقية.
وفي ظل محاذير عربية صارمة من بقاء حماس، مع إدراك دولي باستحالة تجاهلها، يصبح تحقيق توافق داخلي شرطًا مركزيًا وأصعب حلقات المسار الانتقالي.
سادسًا - العقبات الكبرى
1. الموقف الإسرائيلي الذي قد يوظف المعايير الأمنية لإدامة السيطرة.
2. الانقسام الفلسطيني العصي على المعالجة.
3. ضعف الإرادة الدولية لتوفير قوة فعّالة ذات تفويض حقيقي.
4. التنافس بين القوى الكبرى الذي قد يشلّ المتابعة.
5. غياب رافعة اقتصادية وسياسية موحدة تربط الإعمار بالإصلاح وبالمسار السياسي.
6. المخاوف الشعبية الفلسطينية من أي وصاية دولية لا تقود إلى تحرير حقيقي.
سابعًا - متطلبات نجاح المسار وتجنب تكرار إخفاقات الماضي
• فرض انسحاب إسرائيلي شامل بسقف زمني وآليات إنفاذ.
• بناء حكم فلسطيني ديمقراطي مهني يترافق مع إصلاح القطاع الأمني.
• إطلاق مسار اعتراف دولي تدريجي مرتبط بإنجازات واقعية.
• تشكيل مرجعية فلسطينية موحدة قادرة على التفاوض وتمثيل الشعب.
• تعزيز آليات المساءلة الدولية لضمان حماية الحقوق ومنع الإفلات من العقاب.
ويقترح القرار 2803 فرصة نادرة لإعادة تشكيل الوضع في غزة ضمن إطار دولي قد يتحول إلى بداية مسار سيادي فلسطيني.
لكن نجاحه مرهون بثلاثة شروط لا غنى عنها:
• ضغط أمريكي حقيقي على إسرائيل لتغيير سلوكها.
• تسوية داخلية بين فتح وحماس تسمح بقيام مؤسسات انتقالية شرعية.
• قوة دولية قادرة وفعّالة لا شكلية ولا رمزية.
دون ذلك، قد يتحول التدويل إلى إدارة طويلة الأمد لا تنتج دولة ولا تنهي الاحتلال، بل تعيد إنتاج الوضع نفسه بصيغ جديدة.







